طوني فرنسيس


غريبة مسارات علاقة جامعة الدول العربية مع سورية. ووجه الغرابة أن دمشق التي ترفض اليوم التدخل العربي في أزمتها الدموية الخطيرة، هي وحدها من بين كل الدول الأعضاء في المنظومة العربية التي حازت دعم هذه المنظومة على مدى أكثر من ثلاثة عقود منذ إرسالها قواتها إلى لبنان laquo;دفاعاً عن وحدته في وجه مؤامرات تقسيمه ودفاعاً عن الثورة الفلسطينيةraquo;.

وأجرت دمشق خلال تلك العقود عمليات فرز وضم كادت تجعل خروجها من البلد المؤسس في الجامعة وفي منظمة الأمم المتحدة أمراً مستحيلاً، ولم تغادر قواتها العسكرية لبنان إلا بعد انتفاضة الكرامة في 14 آذار (مارس) 2005 التي أعقبت اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري.

الشعارات التي رفعتها القيادة السورية في حينه واستقطبت استناداً إليها دعم وتمويل الدول العربية فلم يتحقق منها إلا نقيضها: حماية الثورة الفلسطينية انتهت إلى إبادة وتمزيق تلك الثورة في اجتياحي 1978 و1982، والدفاع عن سيادة لبنان امتحن في الاجتياحين وفي تكريس الاحتلال الأرضي والجوي إلى يومنا هذا، أما منع التقسيم فتجسد في تعميق الانقسام الطائفي والمذهبي إلى أقصى الحدود، ومن شذ عن القاعدة دفع حياته ثمناً وإذا أعفي عنه غاب عن واجهة العمل العام. بدعم من جامعة الدول العربية، وعبر قرارات تتكرر في كل اجتماع لمجلس مندوبيها أو لوزراء خارجيتها أو في قمم رؤسائها، أمسكت دمشق بتلابيب بلد عربي مستقل وبنت لنفسها فيه أحزاباً وشخصيات عامة وأجهزة أمنية تضاهي في حضورها ما حاول النظام بناؤه لنفسه في بلده الأم. وبات لبنان اليوم، على رغم انتهاجه ما يسمى سياسة laquo;النأي بالنفسraquo; في الموضوع السوري، ورقة القوة الأبرز في يد النظام، تتكامل فيه أجهزة رسمية مع امتدادات حزبية وشعبية، مع تنظيمات ميليشياوية وشخصيات صارخة الولاء وصولاً إلى إعلام مقروء ومسموع ومكتوب... وهذا التكامل في البنى الاجتماعية السياسية العسكرية والإعلامية، لم ينجح النظام في إيجاده داخل سورية نفسها، أو هو لم يحاول ذلك، معتمداً الأمن الصرف طريقاً لممارسة السلطة.

منذ عام 1976 حاصر النظام في سورية جامعة الدول العربية بحرصه على لبنان، واتفاق الطائف جرى تلزيم تنفيذه إلى دمشق برعاية عربية، وبعد خروج القوات السورية من لبنان بسنوات كان عليها أن تشارك في انضاج اتفاق الدوحة تحت لواء الجامعة قبل أن تعود وتنقلب عليه مطيحة حكومة سعد الحريري. غير أن الجامعة كانت حاضرة في السياسة السورية على مدى العقود المنصرمة، وليس فقط في التجربة اللبنانية.

في مطلع الستينات، بعد الانفصال، شكت إليها حكومة الرئيس السوري ناظم القدسي تدخلات الرئيس جمال عبد الناصر، هدد عبد الناصر بالانسحاب من المنظمة العربية إن هي استجابت للشكوى الدمشقية، فتراجعت دمشق. وفي السبعينات قادت سورية برئاسة الرئيس حافظ الأسد الجامعة العربية إلى قطيعة مع مصر أنور السادات وحرصت على الاتفاق مع العدو اللدود صدام حسين على laquo;موقف عربي بالحد الأدنىraquo; ضد سياسة القيادة المصرية آنذاك، ومع بغداد وعدن وطرابلس والجزائر صاغت إطاراً عربياً موازياً laquo;للصمود والتصديraquo; لم تعلن وفاته رسمياً حتى اليوم.

ولأن الجامعة ليست جسماً غريباً عن سورية ولم تكن كذلك يوماً. فعندما اندلعت الأزمة الراهنة بدا أنها قادرة أن تلعب دوراً ليس ضد النظام بالضرورة. مرت أسابيع وشهور ولم تبدر من أطراف المنظمة العربية الفاعلين إشارات عدائية، بل أظهرت تلك الأطراف حرصاً على النظام يوازي الحرص على البلد والشعب. المملكة العربية السعودية وعلى رغم انزعاجها الشديد من السياسة السورية بعد تجارب مريرة في الخليج والعراق ولبنان، حرصت على التوجه إلى رأس النظام بشار الأسد لمطالبته بإيجاد الحلول، وقطر التي تربطها أواصر صداقة و laquo;ممانعةraquo; مع القيادة السورية لم تكن أقل حرصاً، ووجد الموقفان السعودي والقطري صداهما في موقف مجلس التعاون الخليجي، الذي تحول في ظروف انشغال عرب شمال أفريقيا بثوراتهم ومشاكلهم، إلى رافعة للعمل العربي المشترك. ووفر الموقف العربي حماية لا مثيل لها للنظام السوري على مدى الشهور العشرة الماضية. فبينما كان الصديق التركي ييأس ويذهب بعيداً في موقفه، وكانت أوروبا وأميركا تعدان القرارات والمشاريع في الاتحاد الأوروبي ومجلس الأمن الدولي، اندفعت جامعة الدول العربية إلى صياغة حلول عربية للأزمة تشكل حزام أمان لسورية شعباً... ونظاماً، إلا أن المشكلة في ذهن النظام بقيت في إطارها العسكري و laquo;الحل الأمني مطلب جماهيريraquo; كما رأى الوزير وليد المعلم صاحب نظرية سحب الاعتراف بأميركا وأوروبا في زمن غابر.

الآن ستيأس الجامعة، أو هي يئست فعلاً من التعامل مع قيادة اعتادت شن الهجمات على مسؤولين عرب في شكل يتعدى المعقول. وعلى رغم أن دمشق تحدثت بعد رفض عن تمسكها بالمبادرة العربية (من دون أن تسميها كريمة كما أطلقت على مبادرتها في لبنان)، فان الخطاب الرابع للرئيس الأسد ذهب إلى نعي الجامعة نفسها، فكيف يستقيم الأمر مع مبادرة لكيان مرفوض وغير موجود؟