صلاح سالم

تقترب مصر من حد الإفلاسrlm;,rlm; تستدين لتلبي مطالب محدودةrlm;,rlm; خضوعا لابتزاز غير محدود من فئات تحفزها رغبة الالتهام الخاصrlm;,rlm; ولو توافرت دوافع الاحتياج العامrlm;,rlm; وكأننا أمام كيان سوف نقوم بسرقته والهروب سريعا منهrlm;,rlm; وليس وطنا نحيا فيهrlm;,rlm;

وكان واجبا أن يحيا فينا وبنا.
كان تاريخنا الطويل, المتجذرفي الاستبداد قد أفرز علاقة مريضة بين الدولة والمجتمع, تمتلك الدولة المجتمع, ترعاه كطفل وتتحكم به مثل جارية.
وقد ترتب علي ذلك أن يعيش المجتمع المصري حالة شديدة من النفاق والفساد نستطيع تلمسه في دورة كاملة بين كل المهن والطبقات: فالمدرس, لضآلة مرتبه, لا يدرس في المدرسة, كي يذهب الطالب إلي بيته بأموال أبيه, ولأن الأب طبيب لا يكفيه مرتب المستشفي العام الذي يعمل به, فإنه لا يقوم بدوره موفرا جهده للعمل في عيادة خاصة يذهب إليها ابن المدرس نفسه, فإذا ما ذهب كلاهما, أي المدرس والطبيب, إلي مصلحة حكومية فلن يتمكنا من قضاء حاجتيهما إلا بدفع الإكرامية لموظف لا تدفع له الدولة ما يسد رمقه وأسرته, فإذا خرج الجميع الي الشارع وتصادف أن أحدهم يملك سيارة فهو مضطر لأن يدفع نثريات يومية متكررة لمتطفلين يعانون البطالة أرادوا تصدير أزمتهم إلي الآخرين, فتحولوا سياسا لجراجات الأرصفة, وأوصياء علي الشارع, تتخاذل الدولة في ردعهم لأنها تتعاطف معهم باطنا ولا تملك لهم بديلا ظاهرا, وهكذا لم يعد أحد يؤدي دوره كاملا, ولم يعد أحد يحاسبه علي ذلك, لأن السلطة التي تستطيع تحقيق الانضباط وممارسة الحساب هي نفسها المسئولة عن تقديم البدائل الاجتماعية, والفرص الاقتصادية, ولذا فقد تنازلت عن حقها بتنازلها عن واجبها, وأخذت تلوذ بالصمت اللذيذ.
وفي هذا السياق يمكن النظر إلي ما جري في السنوات الخمس السابقة علي ثورة25 يناير من احتجاجات علنية واضرابات متوالية لفئات كثيرة علي أنه انتفاضة ضد هذه العلاقة المريضة, يفترض أن يواجه بها المجتمع مظالم الدولة بحثا عن نقطة التوازن العادلة, تجاوزا للخلل القائم بينهما, غير أن كل ما جري عقب الثورة نفسها, أعاد تكريس الخلل نفسه ولكن في الاتجاه المعاكس, حيث تم الانتقال مباشرة من تغول الدولة إلي تغول المجتمع, من دون مرحلة وسطي( توازنية) يفترض لها أن تسود علي المدي الطويل, حتي صرنا أمام مشهد فريد من المطالب الفئوية بلغ حد الفوران والهياج العصبي, فكل الطبقات تشكو, وكل الفئات تتظاهر, وكل المهن تخرج علي السياق, بل أخذ كل الناس في الخروج علي الآداب العامة, والأعراف المرعية, والتقاليد المستقرة التي تصون أي مجتمع من الذوبان أو التحلل الأخلاقي, وهي الحالة التي صرنا نعيشها الآن, وتشعرنا جميعا بالدوار والعبث والكآبة.
وربما كان أحد أسباب هذا الانتقال الصادم هو كثافة الأزمات التي عاشها المجتمع وتجرعها جهلا وفقرا ومرضا, غير أن هذا السبب لا يكفي وحده لتفسير بشاعة المشهد المصري وما يلفه من ملامح ابتزاز وأنانية وفوضي, لأن هولاء الذي يعانون الآن عانوا ما هو أكثر قبل الثورة, ولكنهم لم يبذلوا في مواجهة الدولة الظالمة التي كانت, ولو واحد في المائة مما يقومون به الآن من تحد للدولة الضعيفة الكائنة, مما يرسم ملامح حالة( انحطاط مجتمعي) من دون مبالغة, يمكن تفسيرها بأمرين رئيسيين:
أولهما: نفسي وثقافي يخص المجتمع وهو ذلك الفهم الخاطئ الذي أخذ يسود, وهو لا أحد أفضل من أحد. كان ثمة تباين شديد قبل الثورة ولا يصح أن يبقي هذا التباين بعدها, وهنا أخذنا نشاهد حارس عقار طالما تملق سكانه فيما قبل أخذ يتجاهلهم, وممرضة كانت تخشي أن يراها مدير المستشفي فيما قبل, أخذت تناقشه بسوقية,.. وموظفون طالما نافقوا رئيس الشركة فيما قبل يغلقون عليه مكتبه.. وعمال بمصنع طالما قبلوا يد صاحبه فيما قبل أخذوا يتطاولون عليه.. بل إن المحافظين والوزراء أنفسهم لم يعودوا قادرين علي رد اعتداءات الجمهور العام عليهم.
يتصور أولئك أنهم يطبقون مبدأ المساواة, وهم يقتلونه في الصميم, لأن المساواة هي في فرص متكافئة, التعليم والترقي والحساب أمام القانون وليس في توزيع المواقع والعوائد, وإلا كان ذلك تطبيقا لشيوعية متطرفة تعاكس الفطرة الإنسانية, وفوضوية كاملة تسحق المجتمعات المتمدينة التي لابد وأن تقوم علي تراتب طبقي ما.
وثانيهما: يخص الدولة التي غالت طويلا في تسلطها, فإذا بها تغالي اليوم في ترددها, وبدلا من رفضها الإنصات سوي لمحظوظيها, أخذت تصغي للجميع معا, حتي لم يعد صوتهم إليها واضحا, أو خطابها إليهم واصلا, فعجزت عن إلهامهم وشرح ظروفها لهم, كي يؤجلوا مطالبهم غير المعقولة, ويجتهدوا للحصول علي المطالب المعقولة, في تواريخ معلنة وبرامج واضحة. بل إنها ازدادت ارتباكا عندما أخذت تعطي فئة وتراوغ الأخري, لا لأسباب موضوعية عادلة بل حسب القدرة علي الضغط والإكراه, ما يزيد من درجة الاحتقان, فالناس قد يصبروا إذا ما رأوا أملا في نهاية طريق يعرفون تفاصيله, ولكنهم لا يصبرون أمام عطاء عشوائي لحكومة مهتزة لا تدري لمن تمنح ولماذا تمنع؟. ولذا تحتاج مصر اليوم إلي حكومة قوية, قادرة علي أن تشرح نفسها, وتقنع شعبها, تقاوم الابتزاز, وتمنح الأمل, وإلي شعب يعي ويقدر, يستعيد أفضل موروثاته لتجاوز أعتي تحدياته.