عبدالله بن بجاد العتيبي


إنّ أقرب توصيفٍ لما يجري في مصر هو quot;ضياع البوصلةquot;، فالجماهير الثائرة خسرت في كل اقتراع، وquot;الإخوان المسلمونquot; متلهفون لابتلاع الدولة بكل سلطاتها، والشعب الذي أعطى صوته مغلوبٌ على أمره، والمجلس العسكري تائهٌ بين استمرار العملية السياسية حسب اقتراع quot;أصواتquot; المواطنين، وبين هديرquot;أصواتquot; الجماهير. هذه الجماهير وبعض النخب التي تغازلها لم تزل تصاب بالصدمة تلو الصدمة، يصابون بالصدمة حين تجيء الانتخابات بغيرهم لمجلس النوّاب، وحين تجيء بغيرهم للمنافسة على رئاسة الجمهورية، فيدخلون في حالة من الإنكار.

تكررت هذه الحالة في المواقف والطروحات التي مرّت خلال عامٍ ونصفٍ العام، فمثلاً حين تمّ إعلان نتائج انتخابات الرئاسة وانحصارها بين مرسي وشفيق دخلوا في حالة إنكارٍ أودت بهم لشتيمة الشعب، وأخذت طروحاتهم السياسية في التخبط والارتباك. لم يتقبلوا نتيجة الصناديق، فأخذوا يجمعون عدد أصوات المرشحين الخاسرين ليثبتوا أنّهم مجتمعون نالوا أصواتاً أكثر من المرشحين الفائزين، وهي طريقةٌ عجيبةٌ حقاً في التعامل مع نتائج الانتخابات، ولو علم بها الخاسرون في الديموقراطيات العريقة لما مضى منهم أحدٌ لبيته.

ومن التخبط في الطروحات مطالبة البعض بأن يتنازل الكادر الإخواني محمد مرسي عن فوزه لمصلحة مرشحٍ آخر خسر الانتخابات وهو طرحٌ يثير الاستغراب حقاً، فلا القانون ولا العقل يرضى بهذا، أما القانون فهو واضح وقد شرحه المختصون بإفاضة، وأما العقل فكيف يمكن أن يتصوروا أن يتنازل الإخوان المسلمون عن كل هذه الأصوات وعن السلطة التي توشك على السقوط في سلالهم لمجرد إرضاء نزوات جماهيرية ثائرةٍ، وقل مثل هذا في اقتراح quot;مجلسٍ رئاسيquot; يضم الخاسرين في الانتخابات.

وعندما صوّت أكثر من خمسة ملايين مواطن مصري لمصلحة أحمد شفيق لم يستطيعوا الاستيعاب، وبدلاً من التنبّه إلى حجمهم الطبيعي وتطوير خطابهم بكل نواحيه وآليات عملهم داخل المجتمع أخذوا يشتمون الشعب لأنه فعل ما لا يمكن تصوّره لديهم وما ليس مقبولاً من وجهة نظرهم.

الأمثلة كثيرةٌ في مصر تلك التي تثبت أن الجماهير لديها ميلٌ طبيعيٌ للتصعيد والاستمرار في الاحتجاج، لأي سببٍ كان، وأنّها قادرةٌ على الدخول في حالة إنكارٍ لأي أمرٍ لا يعجبها حتى ولو استند على شعاراتها كالديموقراطية ونحوها، والأنكى من هذا أن بعض النخب استمرأت مجاملة الجماهير فعجزت عن توجيه النقد لها بأي شكلٍ من الأشكال.

ضمن هذا السياق، فقد كانت محاكمة مبارك مركز اهتمام وسائل الإعلام في العالم، وقد تابعها المصريون والعرب وغيرهم في العالم، وبعد جدلٍ قانونيٍ طويلٍ استمر عدة أشهرٍ، أعلنت المحكمة حكمها بالمؤبد عليه وعلى وزير داخليته حبيب العادلي وبرأت البقية... هنا ثارت ثائرة الجماهير المكلومة في كبريائها بعد خساراتها المتوالية في صناديق الاقتراع، ودخلت في حالة إنكارٍ للقانون الذي ارتضته طوال الفترة الماضية، وأصبح الهتاف يعلو في قاعة المحكمة أنّ quot;الشعب يريد تطهير القضاءquot;، الذي ربما تمّ تصعيده لاحقاً ليصبح الهدف quot;إسقاط القضاءquot; ليكتمل عقد البراعة واللهفة إلى quot;إسقاطquot; كل شيء في مصر.

بغض النظر عن الموقف من فكرة محاكمة رئيس دولةٍ بتهمٍ جنائيةٍ هنا أو هناك، فقد لفت انتباهي شدّة الشره للدماء لدى بعض الجماهير، وبعض النخب المؤيدة لها ولو من بعيدٍ، فقد كانت فكرة الثأر السياسي مسيطرةً بوعيٍ أو دون وعيٍ على كل رؤيتهم للمشهد.

معلومٌ أنّ الجماهير تندفع بغرائزها أكثر مما تفكّر بعقولها، ولكنّ المستغرب هو أنّ بعض المثقفين والإعلاميين أخذوا يطالبون بأنّ تقام المقاصل والإعدامات خارج القانون المصري اقتداءً بما جرى في فرنسا أيام حكم روبسبير الرهيبة والدموية، حيث قتل الآلاف في أسابيع قليلةٍ. والأغرب من هذا المطالبة بفعل ما فعله الثوّار الليبيون حين أعدموا القذّافي على قارعة الطريق، ولئن كان من الممكن نوعاً ما فهم فعلٍ أهوج لا تقرّه الأديان ولا القوانين ولا الأخلاق قام به شبابٍ متحمسٌ ومسلحٌ لا يمتلك أي قدرٍ من الثقافة والوعي فإنّ مطالبة مثقفٍ ما بوجوب ممارسة نفس الفعل الهمجي مع حسني مبارك تحتاج إلى مزيدٍ من التأمل والقراءة لرصد كيف يتخلى بعض المثقفين عن ثقافتهم ووعيهم وينخرطوا في مزايدةٍ فجةٍ لشارعٍ ثائر؟ أو أكثر من هذا كيف أنّ لديهم نفس القدرة على إراقة الدماء بعيداً عن القانون والنظام وإن اختلفت الدوافع؟

إنّ سيطرة التفكير الثأري على بعض هؤلاء الصحفيين أو المثقفين تذكرنا بالفرنسي جان بول مارا ذلك الذي نشر في صحيفته quot;صديق الشعبquot; قائلاً quot;قوموا واسفكوا دماء الخونة من جديدquot; لقد كان كما كتب برينتن quot;كلب الحراسة المسعور.. يواصل المطالبة بالدم والانتقامquot; ويضيف quot;لقد كان شخصاً بغيضاً بلا ريبquot;.

الثأر محرّكٌ خطيرٌ حين تتبنّاه quot;قوّة اجتماعيةquot; ما وتحسن استغلاله وترويجه، وقد تتحصل من خلاله على مكاسب سياسيةٍ ما ولكنّ آثاره مريرةٌ، وفي التاريخ الإسلامي، فإنّ ثأر عثمان أوصل الأمويين للسلطة، وثأر الحسين أوصل الشيعة للسلطة أكثر من مرةٍ، ولكن حين نرى المشهد المعاصر فإنّ بعض دول أفريقيا تقدّم لنا كيف أنّ quot;الثأرquot; وأمثاله من أدواء التخلف تخرب الدول وتفتك بالمجتمعات دماً ودماراً، والاستثناء الذي يكاد أن يكون وحيداً هناك هو ما جرى في جنوب أفريقيا مع نيلسون مانديلا.

لقد كان النظام الجنوب أفريقي العنصري بغيضاً واستخدم كل عنف الدولة وأجهزتها الأمنية فقتّل وسجن ومارس كل أنواع القهر ضد المواطنين السود، ومع هذا فحين تستلم مانديلا السلطة وكان بإمكانه إشعال تلك الذخيرة الكبرى من quot;الثأرquot; تلك التي ستحرق بلاده كلّها أبى ذلك، وسعى لإخماد الإحن والذحول حتى يضمن لبلاده استقراراً سياسياً وتقدماً تنموياً وديموقراطية مستمرة.

ولماذا نذهب بعيداً في التاريخ أو في الجغرافيا، ولدينا نموذجان عربيان في العراق، حيث سيطر quot;الثأر السياسيquot; على المشهد والنتائج لا تحتاج لتعليقٍ، وفي اليمن الذي استطاع تجاوز quot;الثأر السياسيquot; في بلدٍ قبليٍ يعتبر quot;الثأرquot; أحد أهم محرّكاته، ولكن عقلاء اليمن استطاعوا تجاوز أزمة الثأر بكبح رغبات الانتقام والتطلع لبناء مستقبل الدولة والمجتمع.

من المؤسف القول إنّ بوصلة مصر معرضة لمزيدٍ من الضياع، وأنّ تحديات الواقع أكبر بكثيرٍ من طموحات الإخوان وإنكار الجماهير، وأنّ الثأر السياسي سيدخلها دوّامةً جديدة.