عبدالوهاب بدرخان

لا حل عسكرياً، يقول الاخضر الابراهيمي. ولا سياسياً، لأن بشار الاسد لا يريد أن يرحل، وفقاً لما تردده موسكو منذ شهور. فعلى أي مسعى روسي يعتمد الاميركيون؟ ما أصبح مؤكداً أن الولايات المتحدة وروسيا ودول laquo;مجموعة أصدقاء الشعب السوريraquo; اتفقت على التزام عدم تمكين المعارضة أو laquo;الجيش الحرraquo; من التقدم أكثر على الجبهات مع قوات النظام. فعلامَ أنشأوا laquo;ائتلاف المعارضةraquo; وبذلوا له الوعود السخية ثم راحوا يتنكّرون لتعهداتهم الواحد تلو الآخر. وعلامَ جمع ممثلو دول laquo;الأصدقاءraquo; بضع مئات من الضباط المنشقّين في تركيا لتشكيل مجلس قيادة ومجالس عسكرية للمحافظات اذا كانوا سيقررون في اليوم التالي حجب السلاح والذخائر والمال؟ ولماذا يطرحون الآن إنشاء مجلسين قياديين، عسكري وسياسي، من معارضة الداخل، أملاً في الحصول على موافقتهما على سيناريو مبتكر لـ laquo;حل سوري ndash; سوريraquo;، كما يصفونه؟ قد يتوصلون الى هذه الصيغة، فمعارضة الخارج لم تكن يوماً سوى رديف للداخل، أما الحل بـ laquo;حوار مع النظامraquo; أو laquo;بوجود الاسدraquo;، فلا مكان له في قاموس المعارضة.

أخلوا الساحة، اذاً، لـ laquo;جبهة النصرةraquo;، وهم المتذرّعون بها لخذلان عسكريي المعارضة. فهي الوحيدة التي لا تعاني من قلة الذخائر، ومعها laquo;أحرار الشامraquo; وفصائل اخرى تولد وتتكاثر ملتحقة بها. ذاك أن المقاتلين لن يتوقفوا ولن يستقيلوا، لا لأن واشنطن وضعت laquo;جبهة النصرةraquo; على laquo;لائحة الارهابraquo;، ولا لأنها أصدرت الأمر لوقف تدفق الأسلحة. كانت laquo;الجبهةraquo; وأخواتها هي التي أسقطت مطار تفتناز، بثمن بشري باهظ من الجانبين. انه تنظيم laquo;القاعدةraquo; في سورية، يقول مسؤول اميركي لـ laquo;الحياةraquo;، قبل أن يضيف انها قد تكون النقطة الوحيدة التي laquo;اتفقناraquo; فيها مع الاسد. لم يقل إنهم انتظروا سنتين ليجدوا laquo;نقطة الاتفاقraquo; هذه، وبكلفة بشرية عالية أيضاً. كانوا يتهمونه بإرسال المقاتلين الى العراق لدرء تداعيات المغامرة الاميركية عن نظامه، فإذا بهؤلاء يعودون من الطريق نفسه لإحباط أي موقف اميركي سويّ من قضية الشعب السوري. لم يكن في ظنّهم أنهم يخدمون النظام السوري بذهابهم الى العراق، لكنه متيقّن بأنهم يخدمونه الآن في رحلة الإياب حتى لو لم يرتضوا ذلك. وبين laquo;القاعدةraquo; والنظام لا يبدو أن لدى واشنطن صعوبة في الاختيار، خصوصاً أنها حصلت وتحصل عملياً، وبحد أدنى من الجهد، على ما تريده من النظام: تدمير سورية وإضعافها. لكنها توضح الآن ما لا تريده من النظام: أن لا سورية تحت سيطرة laquo;القاعدةraquo;. وهذا بالضبط ما يقوله الاسد تبسيطاً وتسخيفاً للواقع. بل إن هذا ما غدا جوهر التفاهم بين الاميركيين والروس: مصالحهما أولاً، بما فيها مصلحة اسرائيل.

ماذا يعني ذلك، استطراداً؟ أن laquo;النظامraquo; الذي يمكن أن يولد من laquo;حل سياسيraquo; جارٍ البحث عنه، ستحـــدد له أولوية: مكافحة الارهاب. الثنائي الدولي بات مقتنعاً بأن حتى الاسد لا يُعتمد عليه في هذه المهمة لأن نظامه اعتاد استخدام هذه الورقة في لعبة مزدوجة. لعل واشنطن عادت الى نظريتها ما قبل إسقاط صدام حسين، حين وضعت مواصفات لبديل أمثل: أن يكون laquo;صدّاماًraquo; آخر، سلساً متوسط الدموية ومحاطاً بديكور laquo;ديموقراطيraquo; يتيح له اتخــاذ القرارات الصعبة في ما يبدو كأنه مجرد لعبة أو صراع سياسي بحت. استغرق الأمر غزواً واحتلالاً واختــباراً لأشخاص حتى تبلور خيار نوري المالكي في العراق. أما في سورية فالعملية أكثر تعقيداً، لكن حتى الابراهيمي خرج عن النص ليقول إن الشعب السوري يرى أن حكم أسرة الاسد طال أكثر مما ينبغي. ما يمكن ترجمته عملياً بأن المطلوب laquo;اسدraquo; أو بالأحرى laquo;علويraquo; آخر يمكنه أن يقوم بإعادة هيــكلة الجيش وأجهزة الأمن. لماذا؟ لأن هذا من الخطوات الأولى اللازمة لتفعيل أي حل سياسي، ولأن هذه laquo;المؤســساتraquo; تأتمر جميعاً حالياً بقادة من العلــويين، ولأن وجود شخصية كهذه يمكن أن يُعتبر نهاية لـ laquo;حكم العائلةraquo; ويوفر ضماناً لعدم laquo;استــباحة الطائفةraquo;. في الخــطاب الأخير أطلق بشار رسالة مفادها أنهم لن يجدوا غيره. فـ laquo;الطائفةraquo; متضامنة، وهي قد تفاجئ من يراهنون على انقسامها ببدء الاعتماد على laquo;مجموعات شبابيةraquo; تقاسم الروس والايرانيون و laquo;حزب اللهraquo; تدريب عناصــرها في منــطقة الساحل وزوّدت أســلحة متـــطورة وبوشر تكليفها بمهمات قتالية في ريف دمشق. أما من كانوا laquo;مرشحين مفترضينraquo; كـ laquo;بدائلraquo;، فلم يبقَ منهم أحد، فمنهم مَن اعتُقل ومنهم مَن قُتل ومنهم مَن نُفي الى قريته أو قُطع عن العالم في اقامة جبرية.

لا يعني ذلك أن ما أظهره الاسد في دار الأوبرا هو المزاج الحــقيقي للعــلويين، لا سيما العسكريين، الذين هم على اتصال بالواقع ويرون بأم أعينهم ما أصبح عليه الشارع. إنهم على أي حال آخر من يصدّق أن ثمة خياراً اســمه laquo;دولةraquo; أو laquo;دويلة علويةraquo;. وعلى افتراض أن طُرح أو سيُطرح فعلاً فإنهم لا يتخيّلون للأسد مكاناً أو دوراً فيها، فهو سيأتي اليها خاسراً وســـيواجه laquo;حساباً مع الطائفةraquo;. بعض منهم يلوم بشّار لأنه لم يتخذ ما يكفي من اجراءات لجعل هذه laquo;الدولةraquo; ممكنة، اذ لم يهتم بإقامة بنية تحـــتية laquo;فهــناك قرى لم تصل اليها الكهرباء بعد ولا تبعد سوى دقائق عن الساحلraquo;. بعضٌ آخر يتهمه بأنه laquo;غير طائفي بما يكفي، وإلا لكــان فكّر أولاً بأمن طائفته وبمستــقبلهاraquo; ويتــساءل: laquo;وين صرنا ووين رايحين؟raquo;. كانوا يأملون بســـيناريو مشـــابه لما حــدث في 1982، ولم يتصوّروا أنهم سيــتعرضون لهذه الخســـائر بالأرواح، لا يزالون متضامنين وراءه، ولا خيارات اخرى لديهم، لكنهم يقولون laquo;اذا لم يكن قادراً على الحسم فلماذا ورّطنا الى هذا الحدraquo; أو يقولون laquo;لم نعد نعرف لمــاذا يموت أولادناraquo;. في الشــهور الأخيرة تغـــيّروا كثيراً، فخيام العزاء في قراهم أصبحت تحتل الســـاحات بشكل دائم وتحتقن بالنقمة والانتقادات. يشعرون في دواخلهم بأنهم خسروا دمــشق، حتى الحارات التي ظلّت ساكنة بدأت الآن تتظاهر، وحتى الأنباء الجديدة laquo;المرضيةraquo; عن معارك داريّا والريف المجاور لا تقنعهم، لم يعودوا مصدّقين أن لديه أوراقاً خفية تمكّنه من استعادة السلطة، فهم الأكثر معرفة بالقدرات وقد رأوه يتقلّب من دون جدوى بين الخــيارات التي تحددها الدائرة الضيقة برعاية خاله محمد مخلوف الذي سافر كثيراً الى موسكو خلال العام الماضي. يفكرون بعائلاتهم ويدرسون احتمالات الرحيل، يسألون عن الجهات الممكنة والآمنة، ويحلم معظمهم بلجوء الى دبي. هو نفسه قلّت خياراته، ولا يستطيع تسفير أولاده الى الخــارج، فإذا لم يظهروا كل صباح في المدرسة التي نقلت خصيصاً من مقرّها الأصلي غير الآمن الى laquo;المربع الأمنيraquo;، فإن غيابهم سيثير تساؤلات ذوي زملائهم.

عند عقدة laquo;رحيل الاسدraquo; الذي laquo;يستحيل تنفيذهraquo; بالنسبة الى سيرغي لافروف، و laquo;عقدة العلويraquo;، و laquo;عقدة الحكومة الانتقالية بصلاحيات كاملةraquo;، لم تشهد المحادثات الأخيرة في جنيف أي تقدم. فالكرة في ملعب موسكو، وتعتبر واشنطن أنها نفّذت ما عليها لإنجاحها اذ لا يمكنها أن تخذل المعارضة مالياً وعسكرياً أكثر مما فعلت حتى الآن. وعلى رغم اقتناع موسكو بوجوب التحرك، إلا أنها لا تملك خطة، لذا تفضل انتظار تغيير ما على الأرض قد يكون النظام وعد به. كلاهما لم يتعلم شيئاً من laquo;الحل الدمويraquo; طوال الـ 22 شهراً الماضية.