عبد الوهاب بدرخان

مع سقوط نظام القذافي في ليبيا، أو قبيل ذلك، ظهر الطوارق الذين كانوا يقاتلون إلى جانبه بصفقة مكنتهم من الخروج مدججين بالأسلحة وعائدين إلى بلادهم: مالي. ما أن وصلوا إلى الشمال حتى بدأوا laquo;تحريرهraquo; وتوالت هزائم الجيش الحكومي أمامهم، ما أشعل حالاً من الاستياء أفضت أواخر مارس 2012 إلى انقلاب عسكري أطاح الرئيس المنتخب. لم يكن في ذلك أي حل للمأزق في باماكو، بل زاده تعقيداً. فمن جهة رفضت الحكومات كافة، لا سيما الأفريقية، الحكم العسكري وفرضت إما إعادة الحكم السابق أو تنصيب حكومة من المدنيين. في غضون ذلك، من جهة أخرى، انتهزت laquo;الحركة الوطنية لتحرير أزوادraquo; هذه الفرصة الذهبية، فاستكملت السيطرة على كامل الأراضي التي تشكل laquo;دولة الطوارقraquo; أو laquo;أزوادraquo;.

للمرة الأولى بدا الحلم كأنه تحقق، لولا أن laquo;حركة تحرير أزوادraquo;، لم ترتكب سذاجة الركون إلى laquo;حلفاءraquo; سرعان ما جهروا بأنه لديهم أجندات أخرى. ومن خلال laquo;حركة أنصار الدينraquo;، الرديف الطوارقي المفترض أنه يعمل للهدف نفسه، دخل laquo;تنظيم القاعدة في المغرب الإسلاميraquo;، وما لبث أن ظهرت laquo;حركة التوحيد والجهادraquo;، ثم طرح مشروع laquo;الإمارة الإسلاميةraquo; في شمال مالي. أواخر يونيو طرد laquo;القاعديونraquo; والجهاديون الآخرون laquo;حركة تحرير أزوادraquo; من أرضها، وحتى laquo;أنصار الدينraquo; فقدت نفوذها على الأرض، وبدأ تدمير الأضرحة الشهيرة التي تشكل التراث الطوارقي الأبرز واعتبرته منظمة laquo;اليونسكوraquo; جزءاً من التراث الإنساني.

تأكد للمجتمع الدولي أن laquo;حالة قاعديةraquo;، أصبحت مقيمة في شمال مالي. لكنه لم يتحرك إلا بعد شهور، مستحثاً مجلس الأمن الدولي لإصدار قرار يحاول فيه تشجيع laquo;حركة تحرير أزوادraquo; على الانفصال عملياً عن laquo;أنصار الدينraquo;، متطلعاً إلى حمل الحركتين على التمايز بوضوح عن laquo;القاعديينraquo; لقاء النظر في طموحهما الطوارقي القومي في أي حل نهائي يمكن التوصل إليه لتطبيع الأوضاع في مالي. لم يكن التجاوب مع القرار الدولي مشجعاً، إذ كان طبيعياً أن لا يثق الطوارق بالوعود، وإن كانوا يئسوا أيضاً من الطرف الآخر الذي صادر حلمهم وشوَّهه.

في العشرين من ديسمبر الماضي، أعطى مجلس الأمن الضوء الأخضر لإرسال قوات أفريقية إلى مالي، بغية مؤازرة الحكومة القائمة. كان الأوان قد فات، لم يعرف أحد كيف تخطط laquo;القاعدةraquo; وكيف تعمل. لم ينتبه أحد إلى تصريحات لقادتها الميدانيين يقولون فيها بوضوح إنهم لن يكتفوا بالسيطرة على الشمال، وهو ثلثا مساحة البلاد. أما الشهور التسعة المنصرمة فقد تفنن جميع الأطراف المعنيين في تضييعها. لم يدربوا القوات الحكومية، كما اعتزموا، ولم يبددوا الصراعات السياسية في باماكو، والأهم أنهم لم يبنوا نواة تعاون أو تحالف أو حتى تنسيق لإنهاء الإشكال في مالي.

كانت هناك حرب معلنة، بل تحدد مواعيد لها، لكن أحداً لا يرغب فيها. فرنسا الأكثر تحمساً لم تستطع إقناع الجزائر المعارضة كلياً لأي عمل عسكري. الولايات المتحدة الأقل تحمساً تظاهرت بأنها تحاول إقناع الجزائر، لكنها لم تكن مصرَّة. كان الوضع الإقليمي يميل إلى تقدير مفاده: طالما أن هناك دولة وقع في فخ فشلها فلا فائدة من إنقاذها بعمل عسكري، الأفضل تجريب الحل السياسي، وإذا لم ينجح فالأفضل حصر laquo;القاعديينraquo; في المناطق التي سيطروا عليها ومنعهم من التمدد.

منذ أواخر أكتوبر 2012 كان الموعد المتداول للحرب المحتملة، هو منتصف يناير 2013، مع اقتراب الموعد، بعد الحصول على laquo;شرعيةraquo; التدخل الدولي، بدأ الحديث عن مواعيد أكثر واقعية ترجئ الحرب بضعة شهور، ريثما تكتمل الاستعدادات، ولإعطاء الحل السياسي فرصة جديدة. غير أن laquo;القاعديينraquo; انتقلوا إلى خطة الزحف إلى العاصمة، وشرعوا في تنفيذها. لم يتركوا لفرنسا خياراً آخر غير التدخل الفوري جواً. لكن المواكبة البائسة براً اضطرتها لإقحام جنودها في القتال المباشر. وبعد مرور أسبوع على بداية هذا التدخل كانت إحدى أخوات laquo;القاعدةraquo; تضرب داخل الجزائر محتجزة رهائن أجانب قتل معظمهم في عملية رمت إلى laquo;تحريرهمraquo;. غداة ذلك اليوم الدموي تأكد للأطراف جميعاً أن المتاح هو الانغماس في صراع طويل.

إنها laquo;حالة أفغانيةraquo;، إذاً، تُركت تعتمل، بل صُنعت صنعاً، بشيء من الإهمال والتردد والتواكل وعدم التكاشف والتنسيق. فيما كان laquo;القاعديونraquo; قد حددوا الطرف الذي يواجهونه. أما القوى الخارجية المعنية، فاتضح أن ليس لديها اطلاع استخباري وافٍ عن حقائق الوضع الميداني.