سليمان الهتلان

حينما انطلقت بوادر ما ظنناه laquo;ربيعاًraquo; عربياً، لم يكن أمام من احتفى به غير التصفيق والتفاؤل بمستقبله. وكيف نلوم الظمآن التائه في صحراء قاحلة إن ركض خلف السراب؟ لا ماء في السراب، وحتى اليوم، لا ربيع في laquo;الربيعraquo;!

بعضنا يصف المشهد اليوم بالربيع الإسلامي، وآخرون يكابرون ويصرون على أنه laquo;الربيع العربيraquo;، وأياً تكن التسمية؛ فالنتيجة واحدة. واقع العالم العربي - على أغلب الأصعدة - يبقى أسوأ مما كان عليه قبل عامين، وتلك نتيجة في عداد laquo;تحصيل الحاصلraquo; بعد ستة عقود من الضياع والفوضى والقمع والاستبداد، لكننا نحن الذين صفقنا لما ظنناه laquo;ربيعاًraquo;، نسينا في غمرة الاحتفال ببدايات ما جرى، جملة من الحقائق المهمة تشكل السدّ المنيع في وجه laquo;الربيعraquo;، فغير أننا شعوب تحركها العاطفة وتلتف حول صاحب الصــــوت الأعلى، ورثنا ثقافة تُبجل الحاكم، وتصنع منه أحياناً طاغية ومستبداً، وحتى مفهوم الدولة عنـــــدنا شائك وملتبـــــس، فـ laquo;الأمةraquo;، في خطاباتنا الدينــــية، وخــصوصاً عند التيارات الأصولية، تأتي قبل الوطن إن لم تكن هي laquo;الوطنraquo;، و laquo;الدولةraquo; في تراثنـــا هي غنيمة المنتصر، ولم تتأسس لدينا، حتـــى اليوم، ثقافة تستبدل مفهوم laquo;السلطةraquo; بفكرة معاصرة تتمثل في laquo;الإدارةraquo; لا أكثر ولا أقل. وهنا مربط الفرس، فما لم تكن الإدارة المؤهلة هي مصدر laquo;شرعيةraquo; مؤسسة الحكم، فسيظل الصراع السياسي قائماً على أساس البحث عن laquo;شرعيةraquo; تبرر البقاء في السلطة طويلاً! من هنا وُظف الدين على مر القرون لإسباغ laquo;الشرعيةraquo; حتى على أشد الأنظمة السياسية شمولية وفساداً واستبداداً. ألم يأمر صدام حسين حينما اشتد الحصار عليه بإضافة laquo;الله أكبرraquo; على العلم العراقي؟

وإذا كانت الأنظمة التي تباهت يوماً بعلمانيتها استغلت الدين حينما ضاق عليها الحصار، ووظفته من أجل إيهام laquo;الشعبraquo; بشرعيتها، فما بالك بالأحزاب والجماعات التي تصف نفسها، ومنذ نشأتها الأولى، بالدينية؟ ولهذا نشهد اليوم استمراراً لأحد أركان المشكلة، وهو إهمال laquo;الإدارةraquo; من أجل إثبات laquo;الشرعيةraquo; السياسية، وفرضها على الناس في شكل جديد تحت غطاء الديموقراطية وصناديق الاقتراع. هذا الإهمال قاد - من قبل - إلى كوارث تنموية مرعبة، جعلت من العالم العربي مُصدّراً لأخبار العنف والتطرف والحروب، وشواهد تخلفنا التنموي أكثر من أن تُحصى. اذكر لي اسم جامعة عربية شهيرة يتنافس على الدراسة أو العمل فيها الطلاب والأساتذة من كل بقاع الدنيا؟

أعطني مستشفى عربياً واحداً يحرص المرضى المقتدرون من العالم العربي أو من خارجه على العلاج فيه؟

دُلني على مركز أبحاث وابتكار عربي أذهل العالم بإنجازاته أو اكتشافاته؟ وعليك أن تسأل السؤال الأكثر إحراجاً: ماذا قدمنا للحضارة الإنسانية على مدى الـ100 عام الماضية؟ وعلى المدى القريب: لماذا تزداد نسب البطالة والأمية ويتراجع مستوى الخدمات والأداء والنمو؟ ومهما اشتد الجدال بيننا حول من يسبق من، التنمية أم الديموقراطية، تبقى المشكلة الحقيقية أننا ننتمي لثقافة اختزلت فكرة laquo;السلطةraquo; في الهيمنة والاحتكار، وفسرت قوة الدولة في القمع والكبت والاعتقال، وكل هذا يأتي على حساب التنمية الإنسانية الشاملة، من رصف الطرق وبناء المدارس إلى إنشاء المؤسسات وتأسيس الأنظمة والقوانين ومراقبة الأداء ورصد الفساد، وهكذا لم نحقق لا تنمية ولا ديموقراطية إلا فيما ندر!

إننا عملياً بحاجة إلى ربيع laquo;فكرraquo; قبل ربيع laquo;سياسةraquo;، ربيع يحتفي بالأفكار الجديدة ويؤمن بالتنوع والتعدد في الآراء والقناعات، ويؤسس لمعركة وجود جديدة أدواتها العلوم والمعارف والانفتاح الواثق على المستقبل، وهدفها التنمية والنماء، وإن لم يتحقق هذا الربيع فقد نبقى أسرى لكذبة laquo;الربيعraquo; لعقود مقبلة، وعلينا أن نواجه أنفسنا بحقائقنا المؤلمة، فالراهن في بلــــدان laquo;الربيعraquo; لا يقل سوءاً عن سابقه. تغيّر الشكل وبقي الجوهر، واستبدلت وجوه جديدة بتلك القديمة، وما زالت الممارسات هي ذاتها، لأن الـــواصلين حديثاً إلى السُلطة منشغلون جداً بتثبيت أركان حكمهم، كما كان سابقوهم منشغلين بقمع كل من يحاول المساس بعرشهم، وما لم نؤمن - كمجتمعات - بأن النقد حق إنساني ومسؤولية وطنية، فإننا إنما نصنع لأنفسنا ndash; من جديد ndash; ديكتاتوريات جديدة ومستبدين جدداً، ولكي نصبح جزءاً فاعــــلاً من مجتـــمع laquo;الأمم الحــــــيةraquo; فليس أمامنا سوى قراءة تجارب تلك الأمم الناجحة حينمــــا أعلـــــت مصالح الوطن العليا على مصالــــح الأفراد والأحزاب والجماعات، وحينما تبنت النقد - ونقد الذات تحديداً - منهجاً وفكراً يُحـــتفى به، لا جريمة يحاكم بسببها المخلصون فــــي رؤاهــــم ومخاوفهم الوطنية، أما من دون ربيع للفكر والعقل والمنطق، فسنبقى في عزلتنا عن حقائق اليوم وتحديات المستقبل وآفاقه!