مطاع صفدي
قد ينشغل البعض بأسئلة المراجعات حول حصاد الربيع العربي بعد انقضاء سنتين على انطلاقه، خاصة في كل من تونس والقاهرة. ولعل الرأي العام العربي قد ينشغل أكثر بمصير الربيع المصري، كما لو كان هو الممسك بمفاصل الحدث العربي الجديد، كما كان دأبه بالنسبة لسوابقه. فالريادة المصرية لتاريخ التحولات السياسة بل البنيوية في حاضر المنطقة كما في ماضيها، أمر بديهي يعرفه رجل الشارع قبل أن يؤدي معانيه ودلالاته رجل المعرفة أو صاحب الهم السياسي. ما يحدث في القاهرة قد تكون له أصداؤه سريعاً في عواصم مشرقية أو مغربية، لكن دمشق هي الأوْلـَى غالباً بتلقّف التنبيه القادم من أمواج النيل العظيم.
ثورة مصر منذ عامين، لا تزال هي ثورة كل همّ عربي عام. فهي الحدث الأعظم الثالث في تاريخ نهضة العرب الحديثة بعد (محمد علي) و(عبد الناصر). لا يمكن تسميتها برمز شخصي، إنها ثورة مصر هذه المرة. هذا هو اسمها الحقيقي، لم يصنعها رجل قائد، مهما كان بطلاً خارقاً، ولم ينفذها جيش أو حزب مهما كان وطنياً مخلصاً. ولا نقول عنها أنها ثورة شعب، بل هي انتفاضة القطاع الشبابي من هذا الشعب كله. لكن الأغلبية العظمى من بقية الناس أحسوا خلال أيام أو ساعات قليلة أن 'ميدان التحرير' وسط القاهرة قد دخل كل بيت، كل حي.
قد توصف ثورة يناير أنها كانت أشبه بانتفاضة فجائية ضد تجاوزات الأجهزة البوليسية والقمعية، فبَدَتْ أقرب إلى نوع الانفعالات الظرفية منها إلى الحركات المنظمة المتمتعة ببرامج سياسية واقتصادية وثقافية. فكان من المنتظر أن تخمد الهيجانات لو أن السلطة حيّدت قليلاً أعمال القمع المباشر، غير أن هذه العقلانية الفوقية كان يتغلب عليها غرور القوة والغباء المعروف عن شراسة السلطة العالمثالثية المشهورة، وهي التي تعتمد الخوف والتخويف أساساً لفرض شرعيتها المزيفة، زد على ذلك أن الاستبداد العربي يحافظ على قانونه المركزي القائم على رفض الحد الأدنى من رعاية مبدأ الشراكة أو التواصل مع أية هيئة اجتماعية خارجة عن دائرة أتباعه المباشرين. فلا رأي للآخر، وإنْ جَهَر به، هذا يعني أن المحكوم أصبح عازماً على اكتساب حصة له من حاكمية السادة المتسلطين. في هذه الحالة يخشى الاستبداد أن يفقد شيئاً من سطوته المطلقة، كأنه أمسى مهدداً بالانحلال الكلي، لذلك يلجأ إلى إنزال أقسى العقوبات بالخصم المفترض، هذا لا يعني أن الثورة بالمقابل لم تفقد بعض وضوحها في عين أبنائها أولاً.
فكانت الخيبة الأولى للثورة حين قبلت التعامل مع بعض ممارسات الدولة السلطانية، فجاء إسقاط رأس النظام ومعه القليل من أعوانه ـ كأنه أقرب إلى افتداء الدولة السلطانية عينها بتخليصها من طاقم سياسي عاجز ومهترئ، وفاقد لحيوية الدفاع عن كيانها الأصلي، فلم تتابع الثورة تصاعدها المستمر من مستوى الحقول الاحتجاجية إلى معارج التغيير الهيكلي لبنية السلطة بآلياتها الظاهرة والباطنة، وليس برموزها الشخصانية وحدها، لم يتح للثورة أن تنتج أي جهاز مدني للإصلاح الدولاني.
من هنا يمكن القول أن ثورة يناير قطعت نصف الشوط أو أنها اكتفت بافتتاح عصر التغيير، ولم تكمل مشواره المنتظر، فكانت أشبه بموجة البحر المصطدمة بصخور ساحله العالية التي جعلت عاصفتها تتفتَّت وترتدّ عنها رذاذاً متطايراً في الأجواء الفارغة حولها. هذا يفسر الوضع الحالي لما وصلت إليه الثورة من تبدُّد قواها الدافقة الأولى، تحت وطأة التوزّع السياسوي القديم الذي فرض على الثورة قياداته الأهلوية والإعلامية. فكان الطريق معبداً هكذا للتنظيم الأقوى حزبياً، وهو التابع للإخوان، كيما يكسب النيابات ويستولي على الدولة السلطانية إياها ويمارس من خلالها استبداده المتأصل تحت ثوب المشروعية الدينية والسياسية معاً.
من المعلوم في تاريخ التحولات البنيوية الكبرى أنه قلما أتيح لثوار الشوارع أن يصبحوا هم حكام الدولة الجديدة. هذا يرجع علمياً إلى الاختلاف في طبيعة الأدوار لكل من القوة الضاربة التي تحتاجها الثورة في مرحلة الكفاح السلبي، والقوة المدنية المنظمة التي ينبغي أن تمارسها سلطة الحكم الجديد مابعد انهيار النظام القمعي السابق.
ومصر اليوم واقعة بين حديّ هاتين الطبيعتين لدورها المزدوج الجماهيري من ناحية، والسلطوي من ناحية أخرى. حركة الإخوان لا تدعي الثورية لا في أدبياتها النظرية، ولا في سياق ممارساتها الاجتماعية. إنها في أفضل التصورات حركةُ إصلاحٍ ديني، حتى أنها لا ترى التغيير في مفهمة الدين وطقوسه، بل هو التغيير في سلوك أتباعه. فالعقيدة ثابتة كاملة، أما المجتمع فهو المتخلف (دينياً)، والمقصّر عن الارتقاء إلى مستوى تعاليمها. هذا هو ملخص شعارها المركزي: الإسلام هو الحل!
مصر اليوم المحكومة من قبل الإخوان ليست دولة ثورية، إنها في طريقها لأن تغدو دولة مملوكية أو عثمانية، أو (مرشدية) مذهبية، إلخ...
خلاصة السنتين، أن الحرية ما زالت كالبدوية الضائعة، باحثة عن مضارب قومها ما بين شوارع (ميدان التحرير)، وقصور وزراء الحكم الإخواني. فليس غريباً أن تستعيد ألسنةُ الشباب كلَّ الخطابات الغاضبة المطالبة بالثورة الثانية. بالمقابل يرى مخططو الإخوان أن الإعلام هو الجبهة المفتوحة ضد استراتيجيتهم. فأقلام الإعلام وأصواته تكاد تنوب عن التظاهرات اليومية في الميادين العامة، إنها تحتل مراصد الرقابة الواعية والشجاعة ضد كل تصرفات الحكّام الجدد، كأنهم يتحركون مكشوفين في مسرح عام لا جدران له، وجماهيره تحيط به من كل جانب. لا نقول إذن أن الثورة أمست مرتدّة على أعقابها لا تلوي على شيء سوى ذكراها الحزينة. الثورة زرعت بذرة الحرية في صحراء الاستبداد الفرعوني القديم. أصبح عنوان المرحلة الراهنة: حرية التعبير رمزاً للثورة المستدامة، وقد أدرك 'الإخوان' دلالة هذا العنوان، فكان انشغال دولتهم الأول في محاصرة الإعلام واضطهاد رجاله بتسليط قوانين مبارك ضد أقلامهم الشجاعة.
إذا كان التغيير الحقيقي مطروداً خارج بوابات الدولة حتى اليوم، فهذا الاضطهاد الفوقي لا يجري في أجواء التعتيم، بل تداهم الشفافيةُ أحداثَه وظواهرَه اليومية. هكذا يشترك الرأي العام في معركة التنوير الفكري، بالمقابل يعاني الاستبداد من عجزه عن ستر فضائحه وابتذالاته الصارخة. ما دامت أنوار الصحافة اليومية مسلطة عليه، كاشفة عن دواخله، فارضة عليه ثقافة الشفافية رغماً عن إرادته. هذه هي العلامة المميزة للربيع العربي، إنها تنقل شعلة النار من أيدي الآلهة التي تحتكرها، لتزرعها في موقد كل بيت.
العرب عاشوا أكثر من ألف سنة محرومين من لسعة النور الحقيقية، أعداء العرب من أجانب وأهليين، كانوا يدركون هذه الحقيقة أساساً موجباً لكل كارثة أصابت النهضة وإنسانها المعذب، ولو تساءلنا عن جوهر هذا القمع، لم نجده سراً خافياً، لكن تحت وطأة القمع والتجهيل رفضته العيون طيلة عصور الانحطاط حتى أشاحت بأنظارها عنه نحو كل مخيال زائف آخر.. كأنها كانت تخشى أن تنوء تحت (ثقل؟) أنواره.
الإخوانيون هم الذين اختارهم تاريخ الانحطاط أخيراً للحفاظ على جذوة العتمة العقلية لتظل علة جذرية لكل عتمة أخرى سياسية واقتصادية وثقافية؛ لعلهم أصبحوا من أهم المؤهلين بالفطرة التربوية المنظمة لانجاز أعباء هذه المهمة على أكمل وجه. وخاصة ضدالربيع العربي الواعد بإبداع يأتي بالمواسم الحضارية، بذروتها المؤهلة لاحتضان افتتاحية هذه السمفونية العظمى باسم النهضة الحقيقية الممنوعة من العزف والغناء حتى في عصر انهيار الاستبداد.
جماهير الشوارع المصرية، صنعت ثورة 25 يناير، وهي نفسها ـ الأمس واليوم ـ التي تسترد الثورة من أيدي خاطفيها الطفيليين. لا أحد من القادة والسياسيين يجرؤ على إسناد القيادة إلى شخصه وأفكاره. امتياز الربيع أنه أدخل لأول مرة مفهوم الكتلة الجماهيرية إلى صلب العملية الثورية المستديمة، وليس الآنية أو المرحلية. وإذا كان لا بدّ من نشأة التنظيمات السياسية فيما بعد، فلن يكون مقياسها الواقعي والتاريخي سوى رصيدها الجمهوري. هذا هو سر الانقلاب المفصلي في ثقافة الثورة العربية، إنه التعبير المشروع عن الحركة التاريخية التي قمعتها طويلاً سلسلةُ المتغيرات الفوقية من الانقلابات العسكرية والأيديولوجية التي احتكرت سطح الحياة السياسية العربية طيلة عمر النهضة الاستقلالية الناشئة.
'الربيع' يعيد تصنيف (علم المصطلح الثوري) بدءاً من تحرير مفرداته الأساسية من حمولاتها الشعارية. لفظة الشعب، تشرع في خلع أسوأ استخداماتها السياسوية الدعاوية، تمتلئ فجأة بمضمونها الطبيعي الأصلي، لن تعني بعد اليوم سوى هذا الجسد الإنساني العمومي العظيم الذي هو الجمهور، ليس هو التجمع من أفراد دون هوية معينة، إنه الناس في حال الاجتماع التواصلي الدائم عبر الأحوال العامة التي توحد المشاعر وتنظم الأفعال الفورية، وترسم الأهداف الواقعية. فالجمهور قد يكون هو التجمع العفوي، لكنه سريعاً ما يصير إرادياً مقصوداً في ذاته من قبل ذراته التكوينية، أي أفراده. أما التنظيم السياسي الجديد فهو الذي سيخترع لذاته كل أسباب التكامل الجمعي بين عقول وإرادات أعضائه. سوف يوحدهم فعلهم التكاملي هذا في كل حيز من (المجال العام) الذي يسكنه الشعب، ويعززه كيان الوطن. سوف يكون الجمهور، هو المنظم الأول لأفعاله، هو المبدع الدائم لمقاصده، هو المولد لسلالات قياداته.
إذا بحثنا عن أمثال هؤلاء القادة بين شباب الميادين، لم نعثر إلا على المئات والألوف من متظاهري النهار والليل في الصفوف الأولى وما وراء الصفّ الثاني والثالث والرابع من الجموع الغفيرة النازلة إلى خضّم الفعل المباشر، والمطالبين باسترداد ثورتهم من أيدي اللصوص العاجزين حتى عن الدفاع عن سرقاتهم الخيانية، كما حدّدت صفاتِها هتافاتُ الجماهير من جديد: الشعب يريد إسقاط النظام. فكان من سوء حظ الإخوان، بل من سوء تقدير مرشدهم وقياداتهم، أنهم قرروا تقمّصَ شخصية النظام الفرعوني نفسه، أنهم استنسخوا لأنفسهم أدوارَ وأفعال أجهزة الفرعون، أنهم عجزوا عن تبين أية فروق ممكنة بين سلطتهم ومركّب الاستبداد/الفساد الماضي والمستمر. هذا المبدأ الحاكم الأكبر لجميع حكام عصر الليبرالية المتوحشة عالمياً، وأوحشها سارحةٌ في صحارى وغابات العرب وأفريقيا.
بضعة أشهر قليلة من وباء (الأَخْوَنَة) كانت كافية للإجهاز نهائياً (تقريباً) على آلية استنساخ الفروع البالية عن الأصول الساقطة، لكن رحلة الإجهاز هذه قد تطول وتواجهها عقبات كثيرة، ليس هناك نتائج مضمونة سلفاً سوى هذا التحول الاستثنائي في ثقافة الثورة العربية المستدامة، متمثلاً في مولد الجماهير المنادية بإسقاط أنظمة الاستبداد/الفساد، والقادرة حقاً على إسقاطها...
- آخر تحديث :
التعليقات