أمجد عرار
من المنطقي أن يشارك مسؤولون، وربما رموز ثقافية في لقاءات مع مسؤول دولي كبير يزور بلدهم . ومن المفهوم أن يشارك في لقاءات كهذه وزراء أو دبلوماسيون سابقون، لا سيما إذا كانت لهم سيرة حافلة من العمل يصعب محوها بمجرد الخروج من المنصب الرسمي . لكن ما هو غير منطقي وغير مفهوم أن يكون ممن حضروا مأدبة غداء، قبل بضعة أيام في القصر الرئاسي، مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في سنتياغو وزيرا خارجية تشيليان سابقان من الحقبة الدكتاتورية الدموية لأوغستو بينوشيه . فميغويل أنخيل شفايتزر وهرنان فيليبي إيرازوريز، شغلا منصب وزير الخارجية بين عامي 1973 و1990 .
الوثائق التشيلية التي كانت سرّية، قبل أن تكشفها وكالة الأنباء الألمانية، أي أنها وكالة تصدر في بلد ميركل، تؤكد أن إيرازوريز كان على علم أثناء توليه حقيبة الخارجية تحت حكم بينوشيه بجرائم ضد الإنسانية ارتكبت في مستوطنة ldquo;كولونيا ديجنيدادrdquo; التي أنشأها طيار نازي سابق في جنوب تشيلي عام ،1961 وكانت تستخدم معسكراً للتعذيب من جانب رجال الدكتاتور بينوشيه الذي كان يحظى برعاية كاملة من الولايات المتحدة والغرب .
في العاشر من ديسمبر/كانون الأول ،2006 وبالتزامن مع احتفالات العالم بالذكرى الثامنة والأربعين لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، رحل الدكتاتور بينوشيه وعمره واحد وتسعون عاماً، قضى قرابة خمس وعشرين سنة منها حاكماً دموياً لتشيلي بعدما نفّذ، وللمفارقة في 11 سبتمبر/أيلول،1973 انقلاباً عسكرياً ارتكبت خلاله القوات الموالية لبينوشيه مجزرة في القصر الرئاسي وقتلت الرئيس الاشتراكي المنتخب سلفادور اليندي في القصر الرئاسي . منذ ذلك الحين وحتى انتهاء حقبة حكمه عام ،1998 سقط ضحايا بعشرات الآلاف بين قتلى ومعتقلين ومفقودين ولاجئين في دول أخرى . لكن حقبته السوداء لم تقتصر على ذلك، فهو دمّر حياة المواطنين التشيليين تماماً، إذ ارتفعت نسبة البطالة والفقر وانخفضت في عهده إلى مستويات جنونية، ورغم أنه كان بنظر المنظرين الأمريكيين ldquo;معجزة تشيليrdquo; فإن معظم كتّاب وأدباء أمريكا اللاتينية كانوا في الخندق المناهض له، انطلاقاً من عدائهم للسياسات الإمبريالية، وليس بتوجيه مموّل من الغرب الإمبريالي كما يفعل مثقفون كثر في الأوقات الحرجة التي تعاني فيها الإمبريالية من إفلاس مالي وسياسي وأخلاقي .
نموذج بينوشيه يؤكد أن سرطان الدكتاتورية بنظر الولايات المتحدة وأتباعها الغربيين، نوعان ldquo;حميد وخبيثrdquo;، الأول يمثّله الدكتاتوريون العملاء الذين ينفّذون أوامرهم ويحققون المصالح الإمبريالية على حساب شعوبهم، فهؤلاء يحظون بالحماية والرعاية الكاملة، ويبقون مدى الحياة محصّنين من الملاحقة القضائية، والثاني يمثّله دكتاتوريون يرفضون التبعيّة والهيمنة الاستعمارية ويحرصون على استقلال بلادهم وقوتها ومنعتها . هؤلاء بنظر الغرب أشرار جديرون بالملاحقات ومحاولات الاغتيال أو الاعتقال والمحاكمة، وفرض شتى أنواع الحصار على بلادهم حتى وإن كانت الشعوب هي التي تعاني من الحصار، فلا ضير لأن هذا هو المقصود لدفع الشعوب لكي تنتفض وتحدث حالة فوضى، وتجد أدوات التخريب بيئة ملائمة لضرب البلاد من الداخل فيبرز قادة سياسيون جدد يستخدمون منظومة الشعارات ldquo;الإنسانيةrdquo; جسراً لإسقاط البلاد وخيراتها في قبضة المستعمرين .
دول أمريكا اللاتينية نجحت في ما أخفق فيه غيرها، حيث تمرّدت على هذه الثنائية السرطانية، وأفرزت قادة وأحزاباً جمعت بين الديمقراطية والاستقلال الوطني والعداء لمنطق النهب الإمبريالي، وبرز في معظم دول القارة قادة ينحازون للفقراء ويهتمون بالتنمية ورفع مستوى حياة الإنسان، لذلك تناصبهم الإمبريالية العداء، وتحتضن نوعاً من الدكتاتوريين على موائد الغداء .
التعليقات