خالد الحروب

عندما ينتقل أي قيادي حزبي من الأفق الضيق للحزب الذي ينتمي إليه إلى أفق وطني أرحب تضيق به جماعته، ثم لا تضيع فرصة لتهميشه أو التخلص منه. وتنخرط القيادات الحزبية في العمل الوطني والتنافس والصراع منطلقة من مقولة تسير في جينات أي حزب تنص على أن مصلحة الوطن هي في مصلحة الحزب، وأن العمل للثاني يعني خدمة الأول. ومع مرور الزمن ومواجهة الأزمات وتعقيدات الواقع تكتشف بعض هذه القيادات أن تلك المقولة ليست مطلقة، وأن مصلحة الحزب، لا تنسجم في كثير من الأحيان، مع مصلحة الوطن، وأن الأولوية يجب أن تكون دائماً للثانية حتى لو اضطر الحزب لتقديم خسارات تكتيكية. والتجربة والاحتكاك تنقل هذه القيادات من مستوى إلى آخر، وهو ما رأينا أمثلة كثيرة له في ممارسة الأحزاب الإسلامية في حقبة ما بعد quot;الربيع العربيquot;. والسلفي عماد عبدالغفور رئيس quot;حزب النورquot; سابقاً يكتشف هذا الاصطدام، فيصطدم مع بقية الحزب، لينتهي مستقيلًا ومؤسساً لحزب جديد اسمه، للمفارقة، حزب quot;الوطنquot;. ومشعل ينتقل إلى أفق وطني ما بعد حزبي بعدما يكتشف ضيق تحزب quot;حماسquot; وعنادها في أكثر من سياق، وهو ما يدفع إلى تهميشه، وربما إزاحته عن قيادة حركته. والجبالي، أحد القيادات التاريخية للإسلام السياسي في تونس ورئيس وزرائها بعد بن علي، يكتشف ضيق أفق الحزب ورغبته في الاستئثار بالسلطة، ويطرح تشكيل حكومة تكنوقراط تتجاوز أفق الحزب. وبعيد سقوط مبارك يكتشف عبدالمنعم أبو الفتوح كيف أن quot;إخوانquot; مصر لا زالوا تحت الأرض، ويفكرون بمصلحة الجماعة أكثر من مصلحة مصر، فيتركهم ويؤسس حزباً لـquot;مصر القويةquot;. وهناك أمثلة أخرى كثيرة بطبيعة الحال.

وفي الشكل الحديث لممارسة السياسة ضمن إطار quot;الدولة- الأمةquot; تبلور الحزب السياسي بكونه شكلاً للتنافس بين الرؤى الإيديولوجية والمصلحية والسياسية في خدمة الوطن المعني. والحزب السياسي يفترض أن يكون هو الشكل الأكثر نجاعة لاستيعاب وتذويب الولاءات السابقة التي تعتمد على القبيلة، والطائفة، والدين، أي على العلاقات الغرائزية التي تشترط ولاءً أعمى يسبق الولاء للوطن وللدولة. والأشكال ما قبل الحديثة للتجمعات البشرية تريد تحقيق مصالح التجمع الصغير، الإثني، أو الطائفي، أو الديني، على حساب مصالح التجمع الكبير، الشعب. والحزب السياسي، بالتعريف النظري، يخترق تلك الحدود التقليدية وينضم الناس إليه لتحقيق مصالح مشتركة، بالخيار، وليس لأنهم سليلو عشيرة معينة، أو إثنية، أو ورثوا اتباع دين معين. والفروق الكبيرة بين المجتمع التقليدي والمجتمع الحديث من ناحية ممارسة السياسية والانتماء تكمن في أن الانتماء إجباري في الحالة الأولى (للعشيرة، والطائفة والدين)، واختياري في الحالة الثانية (للحزب، أو أي تنظيم قائم على المصلحة المشتركة)، وتكمن في أن الفرد يُعرّف في الحالة الأولى بـquot;من هوquot; وإلى من ينتمي، وأن الفرد يُعرّف في الحالة الثانية بـquot;ماذا يعملquot; وماذا يُنجز -بحسب مفهوم quot;ماكس فيبرquot;.

وليست الأمور مثالية في الشكل الحديث لتسيس البشرية حتى في أفضل أشكالها الديمقراطية، ذلك أن مصالح الأحزاب تختلط وتبتعد عن طوباوية quot;خدمة الوطنquot;. ولكن هذا الشكل على سيئاته هو أفضل ما أنتجه الإنسان في سياق الصراع على الحكم وإدارة التنافس بين مكونات أي مجتمع بشري. وفي المنافسة بين الأحزاب، وفي المنافسة بين القيادات الحزبية، وفي المنافسة على رئاسة الدولة، هناك غايات حزبية وإيديولوجية، وهناك طموحات وتوق شخصي للوصول إلى القيادة، ونزعة فطرية لحب الرئاسة وقيادة الآخرين، ولكن هذه الغايات والطموحات والأنانيات تشتغل تحت ضوء الشمس وفي سياق حريات عامة. وعوض أن تصطرع بالعنف، تتنافس بطريقة سلمية وحزبية، وهي الطريقة التي تخلف أقل قدر ممكن من الدمار. ومعنى ذلك أن نسبة المصلحة الحزبية أو الشخصية مقارنة بمصلحة الوطن تكون مكشوفة للرأي العام، والرأي العام هو الذي يقرر عبر صناديق الانتخاب. ومعنى ذلك أيضاً أن هناك اعترافاً واقعياً وتصالحياً بأن التنافس السياسي الحزبي ينطوي على قدر كبير من الرغبة والطموح الشخصي الذي يرفع راية quot;خدمة الوطن والشعبquot;. وطالما أن المرشح للرئاسة، الذي قد تقوده طموحاته الشخصية أكثر من دافع خدمة الوطن، سيضطر لخدمة الوطن ومحاولة إثبات أنه الأفضل عن طريق الإنجاز والخدمة وذلك لتحقيق أحلامه الشخصية في المجد ودخول التاريخ، فلا ضير في أن تتحقق مصلحته عن طريق تحقيقه لأقصى قدر من المصلحة العامة. وطالما أن الحزب يحقق مصالحه مع إنجازات المصالح العليا للوطن فلا ضير في ذلك.

ولكن هناك ما هو أخطر من الطموح الفردي للوصول إلى القيادة والرئاسة، وهو ما يمكن ترويضه عبر آليات محاسبية ورقابية وفصل للسلطات. والخطر الحقيقي في الحياة الحزبية يتمثل في الأحزاب عميقة التأدلج أو ذات البعد الطائفي، أو العشائري، أو الإثني، أو الديني. ففي هذه الحالة تسود المصلحة الإيديولوجية، أو الطائفية، أو القبلية، أو الإثنية، أو الدينية، على أي شيء آخر، حيث يتم اختصار الوطن والمصلحة الوطنية بكونهما لا يتحققان إلا من خلال تحقيق مصلحة الحزب المعني. وهنا ترتبك الأمور وتختلط ليس فقط على الأفراد والقواعد التابعة للأحزاب، وهم دائماً مقودون بالتعليمات العليا وأوامر الحزب وعليهم السمع والطاعة، بل يطال الارتباك القيادات نفسها المنهمكة في الدفاع عن الحزب حتى العظم، ولو أدى ذلك إلى تدمير مصلحة الوطن.

ولكن ماذا يفعل الحزبي الذي منح حزبه زهرة شبابه وقضى فيه سنوات طويلة من عمره، طواعية وعن خيار حر، عندما يرتبك ضميره الوطني ويكتشف أن انتماءه وولاءه لحزبه صار يعاكس ولاءه لوطنه، وأن مصلحة الإثنين لم يعد يراها منسجمة كما كان يراها سابقاً؟ الفكرة الابتدائية في التحزب السياسي عند غالبية أفراد أي حزب تفترض أن خدمة الحزب هي خدمة للوطن، وأن تحقيق مصلحة الأول يعني تحقيق مصلحة الثاني. وتتكاثر الحالات التي يبرز فيها هذا الاشتباك والتشظي على مستوى الضمير الوطني والولاء الحزبي عندما ينتقل الحزب من العمل السري إلى العمل العلني، ويكتشف كثير من الأفراد أن الحياة السياسية تحت الشمس غيرها تحت الأرض، وأن تعقيدات الواقع غير خيال المثال المجنح. وتحت الشمس وفي ضوء الحرية تختبر المقولات والإيديولوجيات وبعضها، إن لم يكن كلها، تتواضع طوباوياتها وتصبح أكثر عقلانية، وتبرز ثنائية مصلحة الوطن ومصلحة الحزب. والحزب الناجح هو الذي يتأقلم بأسرع وقت ممكن ليتواءم مع مناخ الحرية ويتخفف من وطأة الحزبية والسرية والانغلاق وينفتح على أفق وطني. والحزب الذي يفشل في ذلك يفقد عناصره، أفراداً وجماعات، ذلك أنهم في مناخ الحرية يرون الأشياء بطريقة مختلفة. وهذا ما حدث مع كثير من منتسبي الأحزاب الإسلامية في مصر وتونس وليبيا واليمن والأردن والمغرب وفي كل بلد انفتحت فيه آفاق للعمل السياسي. انتقل حزبيون إسلاميون كثر من أفق الحزب إلى أفق الوطن، وتمردوا على المعادلة المؤدلجة التي تنص عليها دساتير أحزابهم بأن مصلحة الوطن هي مصلحة الحزب.