أحمد جابر


ربما بات الحديث واجباً عن صمت الشيعية السياسية، أكثر من متابعة الضجيج الذي يصدر عن ذراعها المسلحة، أي حزب الله، الذي يرتدي عباءة المقاومة كشعار وطني عام، وينصرف إلى مراكمة عناصر تحكم laquo;سلطويraquo;، تتناقض في راهنها وفي مستقبلها، مع أحكام ومتطلبات هذا الشعار.

تناول صمت الشيعية السياسية يهدف إلى استنطاق أكثريتها، حتى لا ينطبق عليها القول المأثور: laquo;الصمت علامة الرضىraquo;. أسئلة الاستنطاق كثيرة، والأساسي منها يقع بين البنيوي والسياسي، مثلما يتوجه إلى التاريخي، وإلى رؤية الشيعية السياسية لذاتها، داخل المستقبل اللبناني، وفي صلب بنائه التطويري والتطوري. من الأسئلة الملحة: لماذا ارتضت الشيعية السياسية اختصار مسيرة صعودها الاجتماعي والسياسي، ببعد واحد، هو بعد السلاح؟ وكيف تسلم قيادها لنمطية خطابية، مشحونة بالأيديولوجيا الارتكاسية، هي التي ضجت بصخب الانفتاح الفكري والاجتهاد الفقهي، والريادة الثقافية؟ وكيف تسمح الشيعية السياسية بتبديد تراثها الكفاحي، ماضياً وحاضراً، فتبذره في الأرض البور للحرب الأهلية في سورية، وتمنع عنه مياه الاتصال والتواصل في الديار اللبنانية؟ والسؤال المقلق: ما الذي ستجنيه الشيعية السياسية من عملية الفرز الذاتي الذي تقدم عليه، بعد أن سعت طويلاًَ وحثيثاً، من أجل اندماج عام، وطني وإسلامي وعروبي، كان وسيظل العامل الأهم من عوامل حمايتها؟ الأجوبة ليست ناجزة لدى الشيعية السياسية اليوم، وإعادة صياغتها تتطلب زمناً ليس بالقصير، ذلك أن ما آل إليه هذا الطيف اللبناني، ناجم عن سنوات طويلة من التنميط الدائب، والقولبة النشطة، التي تضافرت على رعايتها رؤية ومصلحة إقليمية بعيدة، وإدارة وأهداف عربية قريبة. خروج الشيعية السياسية من حال إلى حال يتطلب تضافر جهد ذاتي، ينطلق من إعادة تعريف المصلحة laquo;الشيعيةraquo; وطنياً، ورؤية رحبة لبنانية، تلعب دوراً مساعداً من خلال أمرين: معرفة حدود كل طرف أهلي لبناني، بما لا يتجاوزها إلى استثارة الهواجس laquo;الأقلوية ndash; المذهبيةraquo;، ودراية عالية في مخاطبة الطفرة الشيعية الحالية، وفي حسن التعامل مع إرهاصاتها الذاتية، الرافضة للمخاطر المترتبة عليها.

إدارة الاختلاف laquo;الوطنيraquo;، مع الشيعية السياسية، هو واحد من حصانات هذه الإدارة، أما هدفه فليس أقل من تكوين سياق سياسي آخر، يحاصر سياسياً، ما تبديه الشيعية السياسية من ميل عام إلى التحكم بحياة التكوين اللبناني، وإلى الإصرار على هذا التحكم، ما دامت لا تستشعر ردوداً سياسية جادة، ترفض ميلها التحكمي، وما دامت الردود المناوئة تصدر من منطلق مذهبي، يبرر أفعالها، ويسهل لها تقديم سيرتها السياسية، كضامن لوجود طائفة بأكملها، على laquo;قيد الحياة السياسيةraquo;. وطنية التحرك الرافض لواقع حال الشيعية السياسية، هي ضمانة النجاح، وعندما نشير إلى الوطنية، فإننا ندرك أن الأمر يدور على صعيد laquo;طائفيraquo; راهناً، لكن ذلك لا يمنع من القول أن الوطني يعادل التمسك بمشتركات لبنانية عامة، جديرة بصياغة توافق الحد الأدنى الشامل حولها، وكفيلة بتأمين نصاب واسع، يتخطى التعريف الحرفي لمصالح كل طائفة بعينها. على هذا الصعيد، يمكن القول أن لبنان laquo;الكبيرraquo;، لم يكن أكثر من هذه الصياغة laquo;العاقلةraquo;، التي أنتجتها الطوائف مجتمعة، وأعطتها اسم الصيغة، وباسمها مارست ميثاقها وأعرافها.

إذن لا يدور الحديث حول الاعتراض الديموقراطي البديل، على الشيعية السياسية، فهذا يدخل في أبواب الأمل، في ظل اللوحة اللبنانية الراهنة، لكن الأمل البعيد، لا يعفي المتمسكين به من دق أبواب الأمل القريب، أي من الانخراط في الواقع كما هو، حتى لا يقال: كل المسالك موصدة. إعلان الإقفال يعادل العدمية، التي لا تمت إلى الواقع بصلة، وعجز الرؤى يخص أصحابه، ولو توالت الوقائع على laquo;غير هدىraquo; ديموقراطي، معاكس لأبناء الهوى الديموقراطي laquo;القويمraquo;.

افتتاح النقاش وإعلاء نبرته حيال أحوال النسخة الحالية من الشيعية السياسية، وخطورة مسلكها السياسي، أمران واجبان، لأن مؤدى المسلك بات على صلة متوترة بمجمل البنية الداخلية اللبنانية، وهو يعرض عليها التقوقع على المطالب والسياسات الفئوية الخاصة، كخيار، مثلما يطلب إلى البنية ذاتها، تكييف مسارها وتوجهاتها واشتغال آلياتها، مع أحكام هذا التقوقع، ومع طلب التكيف، يعلن الخطاب العالي للشيعية السياسية أنه صلد وصلب، ومقاربته إشكالياً، تكاد تلامس مقاربة الانخراط في حرب أهلية جديدة.

لقد رضخ اللبنانيون، لدى صياغة بنود اتفاق الطائف، فارتضوا الوصاية السورية على بلدهم، كثمن لوضع حد للحرب الأهلية الطويلة، وما يعرض عليهم اليوم، هو تكرار لهذه التجربة، مع تبديل اسم الوصي، بحيث تحل laquo;الشيعية السياسيةraquo; اليوم، محل الذي كان وصياً بالأمس. هذا وفقاً للمعايير اللبنانية المعمول بها، يعادل وصفة تفجيرية، تطاول المصير الوطني برمته، وتضع مجدداً على المحك، سؤال الهيمنة الداخلية، وكيف تكونت في التاريخ اللبناني؟ وما عناصر قبولها، وما عناصر رفضها المجتمعية؟ وسؤال: هل يدفع اللبنانيون إلى أن تكون الحرب الأهلية مجدداً، laquo;خيارهم الإجباريraquo; الوحيد؟!