مصطفى محمود


فى ظل هذا الكم الهائل من التعديات والاعتداءات على المبانى العامة إلى جانب ما تردد فى الآونة الاخيرة عن ترشيح روبرت فورد سفيرا لأمريكا فى مصر. وهو مهندس الهدم فى العراق، تترنح أفكارى بين ما يقال عن إعادة تفعيل مشروع مارشال فى المنطقة العربية وبالأخص مصر وما أعرفه عن مآسى ما يسمى بالقاتل الاقتصادى وكلاهما أراه وجهين لفكرة واحدة هى الاستيطان والاحتلال الغربى لنا فى صورة اقتصادية.

وقد يرى البعض أن ليس هناك تخوفا من تطبيقه فى مصر إذا كان التمويل خليجيا لأننا في أمس الحاجة الى إعادة الاعمار وخاصة أن خطة مارشال أعادت إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. مما يدعو إلى التفاؤل ولكننى أرى أنه لا وجه للتشابه بين الوضعين. لأن المساعدات الأمريكية لأوربا لم تكن خالصة لوجه الله والإنسانية والدعم التنموى ولكن هدفها الأول والأخير دعم الدولار الأمريكي، واستبدال الجنيه الاسترلينى، بالدولار الأمريكى، فلا شيء يحدث عن طريق الصدفة، خصوصا الاقتصاد السياسى. وما يطرح الآن ليس إلا جزءاً لا يتجزأ من خطة للهيمنة وعولمة الشرق الأوسط الذي تفرضه الإمبراطورية الأمريكية الصهيوني.
فالسيطرة على المنطقة تبدأ ليس فقط بالتدمير الشامل وزرع الفوضى المدمرة ثم اعادة البناء عن طريق القوى الإمبريالية والبنوك العالمية، كما حدث فى العراق وليبيا ولكن أيضا بطرح ما يطلق عليه مشروع مارشال الذى يكبلنا بالديون وفوائدها مما يؤدى الى الهيمنة الكاملة على المنطقة المستهدفة على جميع المستويات الأيدولوجية والاقتصادية. والطريف أن القطريين كانوا يلعبون دور مارشال مع مصر إبان الحكم الإخوانى وما قيل عن مشاريع تطوير قناة السويس ماهى إلا البداية الحقيقية لتنفيذ الخطة، ثم وضع اليد على الثروات الطبيعية ويكون فى النهاية الفائزين هم اصحب عقود الأعمار، أما أصحاب البلد حالهم ينتقلون من سوء إلى أسوأ ومن فقر الى فقر مدقع ولا يوجد امان ولا اطمئنان، ولكن جاءت ثورة 30 يونية وقطعت الطريق على الإخوان المسلمين واتباعهم (قطر- تركيا- أمريكا) لتنفيذ المشروع وليس فقط فى مصر بل فى جميع المناطق المجاورة وبالأخص ليبيا وتونس لأن العدوى ستنتقل من مصر اليهم وهذا يفسر حالة الهجوم المستمر من قبل الجميع تجاه مصر،والزيارات الأمريكية والأوروبية والعربية والأفريقية لمصر لا تصب إلا لهدف واحد وهو حماية المشروع الأمريكى الصهيونى.. واقتراح البعض التقدم بمشروع إنقاذ دولى عاجل على غرار مشروع laquo;مارشالraquo; الذى قامت به عشرون دولة من بينها الولايات المتحدة وكندا فى عام ١٩٤٨، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بهدف إعادة إعمار وتشغيل الاقتصاد والمصانع الأوروبية التى دمرتها الحرب، والإشراف على توظيف المساعدات الأجنبية لهذا الغرض، والحقيقة أن نتائج الحرب وضعت الأوروبيين فى حالة ذعر شديد من شعوبهم، ودفعهم الذعر إلى الرضا بالتبعية للأمريكيين كحماة لأنظمتهم المتهالكة، وقادهم ذعرهم إلى الخيانة الوطنية، حيث مكنوا الأمريكيين من الاطلاع بسهولة وبساطة على أسرار صناعاتهم المتفوقة، ووضع يدهم على كنوزهم العلمية والمادية والبشرية التى لا تقدر بثمن!
وخضع الأوروبيون لبرامج المساعدات وشروط واشنطن، فانتشرت لجان المراقبة الأمريكية فى الدوائر الرسمية وفى إدارات الشركات، بدعوى التدقيق فى مدى الالتزام بتنفيذ البرامج، ولم تكن تلك، بالطبع، إلا أحد مظاهر السيطرة الأمريكية التى نحذر منها، لأن الموضوع بدأ طرحه من جديد على أساس أن التحديات الاقتصادية التي تواجه مصر باتت أكثر إلحاحاً، وتلقي بثقلها على الآفاق السياسية، ولأن الاستثمارات الأجنبية المباشرة نضبت والعائدات السياحة تتراجع، الى جانب أن الخضوع لشروط صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 4.8 مليارات دولار، بخفض الدعم على الوقود وزيادة ضريبية على بعض الخدمات والسلع، والحد من النفقات الاجتماعية على الوقود والخبز والتعليم والصحة تكاد تكون مستحيلة الآن. وهذا يعنى أننا قد ندفع بقوة تجاه تطبيق خطة مارشال رغم أن أهدافه الحقيقية رامية للسيطرة الأمريكية علينا والتحكم بثرواتنا وتغلغل في حياتنا.
ورغم أن الإصلاح الاقتصادى مطلب بديهى ولا يتحمل بدون أدنى شك جزءاً من التأخير والتلكؤ في إنجاز، لكن لابدّ من التفكير الف مرة قبل الاقدام على مشروع مارشال لانه سيكون بمثابة عرقلة ليس للإصلاح ولكن سيؤثر على استقرار المنطقة وأمنها ويستنزف قواها.. فسياسة الولايات المتحدة الأمريكية كانت دائماً معادية للإصلاح ونحن فى حاجة الى الإصلاح الذي يلبّي حاجات أمتنا ويخدم مصالح جماهيرها ويحقق أهدافها وتحقيق مشروعاتها النهضوية القومية، فالسياسة الأمريكيـة محكومـة بالمصالح وليس بالمبادئ والمثـل الأخـلاقية.
والمصلحة الأمريكية تقضي بألا تعرف المنطقة إصلاحاً حقيقياً بل تنفيذ مشروع إمبراطوري هيمني عن طريق سياسة القوة والضغط ومحاولات كسر إرادة الشعوب، وتحريف وتزييف خياراتها ومحاولات فرض نماذج سياسية واقتصادية عليها..ولكن الشيء الوحيد الذى يجب أن نتعلمه من المشروع هو أن أى برنامج للمساعدة لابد أن يتضمن laquo;ملكيةraquo; محلية، ولا بد أن يتجنب الظهور وكأنه مفروض من الخارج، لكنه فى نفس الوقت لا بد أن يتجنب تركيز القوة الاقتصادية فى أيدى الساسة. وأن يحظى بثقة الناس، مع وجود الشفافية فى صنع القرار وإنشاء وكالة أو وزارة مستقلة للتنمية الاقتصادية تعمل بمساعدة ودعم فني من المستشارين والمراجعين لحسم الخلافات وفصل القوة الاقتصادية عن القوة السياسية.