رشيد الخيّون

يهلُ اليوم (الأربعاء) الأول من العام الجديد (2014). مر العام السابق وكان ثقيلا على شعوب خفيفاً على أُخر. زاد في قطف الرؤوس بعراقنا، خصوصاً، وهو العاشر بعد بداية ما كنا نأمله laquo;عراقاً جديداًraquo;. مازال الدم جارياً بالشام، فبعد انتهاء وحدات laquo;الوحدة العربيةraquo; بفشل قومي، حلت laquo;داعشraquo; لتوحد العراق والشام بقهر ديني، وبما أن اختصار الاسم أغضب أمير أمراء ثغورها فقال: إنها داعس على الكفار! تصوروا بعد أربعة عشر قرناً ونصف من الإسلام، عاد أهل العراق والشام كفاراً! معلوم من أي الدفاتر أتى هذا التعليم، تابعوا المودودي وقطب ستجدونه. كان آخر أبرز الراحلين في العام السابق نيلسون مانديلا. أقول الأبرز لأن هذا الرجل استرعى التفات أنظار الدنيا في حله وترحاله. تمكن بتعاليه على الثأر من بناء بلاد تأوي الأَسود والأبيض ناهيك عن كثرة تفرعاتها الأُخر، بينما كانت من أشد البلاد طرداً للتعايش.

على مستوى المنطقة إذا كان (2012) دهراً للإسلاميين بامتياز فخلفه 2013 كان دهرَ انكفائهم، وإذا ضاقت مصر فلا وسعت لهم أرض. على مستوى العراق، وهو يهمني أكثر، فأوجاعه تكفيه وتكفينا، وها نحن ودعنا (2013) بدماء على مداره. كان عاماً معانداً للطائفيين، فما أن يضرب كربلاء حتى يستوي ضارباً صلاح الدين، ولم تنج منه أربيل والسليمانية، مع اختلاف درجة الوجع. مات فيه الكثيرون من أرباب القلم والعلم، أما الثروة فلا تسأل عن نهبها، والمجد النشَّابي (ت 657 هـ)، وهو يرى طلائع المغول قادمة: laquo;وشيخ الإسلام صدر الدين همته/مقصورة لحطام المال يَصْطادraquo; (الحوادث الجامعة)، وها هم الجميع شيوخ إسلام وصدور دين. رحل في (2013) مؤرخون وشعراء وفنانون، ونُحر إعلاميون وصحافيون وصحافيات، ولم يقف نزيف دماء مسيحييها، فقد استقبلوا ميلاد مسيحهم وودعوا عامهم بكارثة كنيسة وسوق. قبل نصف قرن لم نحفل بعام مضى وعام آت، فلم نكن نعني بتسجيل ولاداتنا فكيف نحتفل بالزمن. نجد تراثنا اهتم بتواريخ الوفيات لا للحياة، وكم كتاب صدر بالوفيات لا بالولادات! لذا استغربت أيما استغراب من رسالة قرأتها في مجلة نُشرت على لسان (1967) إلى خلفه (1968)، أتذكر أنه كانت فيها شكوى ونجوى مما عُبر عنه بالهزيمة أو النكسة. منذ ذلك اليوم، وكنا طلبة المدرسة المتوسطة، أخذنا نفرق بين السنين الميلادية، أما الهجرية فعلامتها ما يُحتفل بطلوع السنة، والقصد انتهى عام، ونجونا من شروره، ونحن الذين تعودنا إذا ما ضحكنا قلنا: laquo;ضحك خير ربيraquo;! فمناطقنا تفرح يوماً وتحزن عشرات حتى طلوع laquo;صفرraquo;، وبالتدريج، ولكثرة الحملات الإيمانية ضاع الفرح بطلوع العام، وصار الزمن كله آخر أربعاء من صفر، وكان عند العراقيين منحوساً. يأتي أبو حيان التوحيدي (ت 414 هـ) بالخبر: laquo;يا يوم الأربعاء من آخر صفر، ويا لقاء الكابوس في وقت السَّحرraquo; (الرسالة البغدادية)، فقرينه الكابوس! لا أكتب رسالة على لسان (2013) إلى (2014) على قناعة أن الأيام كبعضها، وشاهدي التوحيدي أيضاً في laquo;البصائر والذَّخائرraquo;: فالدهرُ آخره شبهٌ بأولهِ/ ناس كناس وأيام كأيام. فما زالت تلك الرسالة، التي نبهتني إلى اختلاف السنين بالأرقام، في ذاكرتي، وكم أوصى بها كاتبها العام الجديد وتمنى عليه، لكنه مرَّ على الناس laquo;مرور البط بالملاحraquo;. على العكس كان (1968) بداية التمهيد لكوارث متواترة، فما هي إلا أسابيع ويُعلن عن شبكات جاسوسية، وبعد شهور تُعلق الجثامين في قلب بغداد حيث ساحة التحرير، وكانت البداية.

ذهب ذلك الزمان بأهله من جلاديه وضحاياه ويأتي زمان آخر، وتغلق الساحة نفسها حماية لفساد لم يشهد العراق مثله في التاريخ، بينما ملأنا السفن باحتجاجات على هدر الثروة في الزمن الماضي. فبأي واقعة نكذب الشاعر عندما قال: laquo;فالدهر آخره شبه بأولهraquo;! قرأت الكثير عن الألفية الثالثة، وأفتى المحللون والمنجمون بما سيكون فيها، وها هو يمر عقد ونصف والدهر: laquo;ناس كناس وأيام كأيامraquo;! لقد تعودنا القول: laquo;لا جديد تحت الشمسraquo;، بسبب أن الحوادث تتعاود على الأيام، مع اختلاف الأشكال لا المضامين. كان الجدل على تحديد عام التسليم والتسلم بين القرنين، هل هو 2000 أم 2001. أثناء الجدل، وبالمصادفة، وقع نظري على رسالة كتبها القرن laquo;التاسع عشرraquo; إلى خلفه laquo;العشرينraquo; نشرتها مجلة laquo;الضياءraquo; البيروتية (1901)، فيها توقعات على لسان القرن السلف يبشر الخلف بما سيحفل به من اختراعات واكتشافات عجزت الدُّهور الماضية عن الأتيان بها. وبالفعل حصل ذلك، فالقرون الخوالي كانت تتبادل بلا قفزات، خصوصاً بشرقنا laquo;شرق التكايا والبخورraquo; (نزار قباني). لكن القرن التاسع عشر لم يتوقع لخلفه الحربين الأمميتين، ولا ظهور سلطات الاشتراكية واختفائها، والفاشية والنازية وزوالهما، واشتعال الناصرية وخفوتها، وحكومات للبعث عبرت إلى الحادي والعشرين وبأدوات القرون الوسطى. لم يتوقع لخلفه حظوته بزوال العثمانيين، ولم يتوقع ظهور سلفيين جدد بأفغانستان، ولا حذره من أعاصير رهيبة، يبتلع فيها الماء اليابسة وما عليها! ستنتقل حزمة الأزمات التي راح يأن بها (2013) إلى خلفه، لا حلول لقضية، وإن حُلت فالآتي سيكون أعظم. الواقع أن تتداول الدهور بأزماتها مع اختلاف الأنماط، والأدوات موجودة، laquo;إذا لم ينلها مصلحون بواسل جريئون في ما يدعون كفاةraquo;، وحتى هذه اللحظة، ونحن في مستهل 2014 لا وجود لكفاة في المنظور مِن الأيام، لكنها حبلى وقد تتأخر ولادتها. أعني العراق، فكلٌ يتحدث عن همه، ويترك للآخرين همومهم، هذا ما طلبناه، منذ زمن، من كُتاب ومحللين عرب. أكتب عرفاناً لتلك الرِّسالة، التي علمتني أن هناك تداولا بين السنين، وإن للسنين رؤوساً، وما أكثرها بالعراق، كنت كتبتُ في مناسبة مثل هذه:

quot;العراق... تعددت رؤوس السِّنين (الشرق الأوسط 31 ديسمبر 2008)، فهناك سمّي الزمان وجُزئ إلى وحدات، حيث رأس السنة السومرية والبابلية. كان مستهلها بنيسان (أبريل) من كل عام. لكن مع تبدل الأزمنة صار العراق يحتفل بالشتاء، مستهلا للسنة. فـlaquo;كانونraquo; عند العراقيين القدماء يعني laquo;الشَّتاءraquo;، بينما laquo;نيسانraquo; الزهرة (رفائيل بطي، تقويم العراق)، بمعنى الربيع. أقول: أيهما الأجدر باستهلال السنين: الشتاء أم الربيع؟! في كلام يصف نفسه فيه بزرقاء اليمامة يقول الجواهري (ت 1997) فيlaquo;أفتيان الخليجraquo; (1979): laquo;وقائلةٍ أما لكَ مِن جديدٍ/ أقول لها القديم هو الجديدraquo;. هذا ما يتوقعه (2013) لخلفه!