محمد السماك

في عام 1947 وقع الانقسام الكبير في شبه القارة الهندية مما أدى إلى ولادة دولتي الهند وباكستان. ثم انقسمت باكستان إلى دولتين بعد انسلاخ بنجلاديش عنها. في العام التالي 1948 وقعت المأساة الكبرى في فلسطين مما أدى إلى ولادة إسرائيل، واستمرت فلسطين على البقية الباقية من أرضها... إلى أن انقسمت هي أيضاً إلى قسمين الضفة الغربية وغزة.

ويترأس وزراء الهند اليوم مانموهان سينغ الذي ولد في بلدة تقع اليوم في باكستان. ويترأس الدولة الفلسطينية محمود عباس الذي ولد في بلدة تقع اليوم في إسرائيل.

وتعاني باكستان من وجود حركات تطرف ديني إسلامي لعل أهمها حركة لشكر-طيبة المسؤولة عن العملية التفجيرية التي استهدفت مومباي في الهند في عام 2008 وأدت إلى مقتل 170 شخصاً. وتعاني الهند من وجود حركات تطرف ديني هندوسي أقواها على الإطلاق حزب laquo;بهاراتيا جاناتاraquo; الذي يدعو إلى laquo;تطهير الهند من غير الهندوس (المسلمين والمسيحيين)، وتحويلها إلى دولة هندوسيةraquo;. وهو المسؤول عن تدمير أحد المساجد التاريخية لتحويله إلى معبد للإله كريشنا.

وفي إسرائيل يتزعم حزب laquo;إسرائيل بيتناraquo; وزير الخارجية ليبرمان (وهو نفسه مهاجر من إحدى دول الاتحاد السوفييتي السابق).

وتبرز ثلاث شخصيات متطرفة تقود التطرف في كل من الهند وباكستان وإسرائيل. ففي الهند هناك ناندرا مودي رئيس الحزب الهندوسي، وفي باكستان هناك حافظ سعيد زعيم حركة لشكر طيبة. وفي إسرائيل هناك وزير الخارجية ليبرمان الذي يدعو إلى laquo;تطهير إسرائيل من العرب- مسلمين ومسيحيينraquo;. كما أن هناك إسماعيل هنية رئيس الحكومة وزعيم حركة laquo;حماسraquo; في غزة.

وقد نشبت بين العرب والإسرائيليين على خلفية القضية الفلسطينية (بعد حرب الانقسام في عام 1948) ثلاث حروب أساسية في أعوام 1956، و1967 و1973. ونشبت بين الهند وباكستان على خلفية القضية الكشميرية ثلاث حروب أيضاً.

وقعت الهند وباكستان على هدنة في عام 2003 ولكن هذه الهدنة تتعرض للاختراق باستمرار خاصة في كشمير. ففي السادس من أغسطس الماضي أدى اشتباك إلى مقتل ستة جنود هنود على خط المراقبة بين الدولتين الذي يبلغ طوله 740 كيلومتراً. وقد أقيمت الحواجز الشائكة على طول هذه الحدود.

ووقعت فلسطين وإسرائيل على ما هو أكثر من هدنة، وقعتا على معاهدة أوسلو في عام 1993. ولكن هذه المعاهدة التي احتفل بذكراها في الشهر الماضي، لم تبصر النور أبداً. أما ما أبصر النور فهو جدار الفصل العنصري على طول الضفة الغربية مع إسرائيل، الذي التهم مساحات شاسعة من الأراضي الفلسطينية والمجهز إلكترونياً لمراقبة كل حركة تقع بالقرب منه. صحيح أن إسرائيل دفعت أكثر من مليار دولار تكاليف بناء هذا السور، إلا أنها ضمنت عدم تسلل الفدائيين الفلسطينيين إلى العمق الإسرائيلي للقيام بعمليات ضدها.

ويمكن مقارنة محمود عباس في فلسطين بالرئيس الباكستاني الجديد نواز شريف. فالأول يطمح لتحقيق تسوية مع إسرائيل، ويطمح الثاني لتحقيق تسوية مع الهند. ولكن على الجانب الإسرائيلي يوجد نتنياهو رئيس الحكومة وهو من المتطرفين والمتشددين في السلطة الإسرائيلية، بينما يوجد على الجانب الهندي الرئيس سينغ الذي يبدي استعداداً لملاقاة نواز شريف في منتصف الطريق. ذلك أن للهند مصلحة في تحقيق تسوية مع باكستان تفتح لها -أي للهند- الطريق إلى دول آسيا الوسطى لتصدير المنتجات الهندية إليها، ولاستيراد النفط والغاز منها. كما أن للهند أيضاً مصلحة استراتيجية تتجاوز المصالح الاقتصادية. ذلك أن صراعها التنافسي مع الصين يشجعها على الانفتاح على دول آسيا الوسطى. والمدخل إلى ذلك هو باكستان.

فقد كانت الهند تراقب باهتمام وقلق نتائج زيارة الرئيس الصيني laquo;شي جينبيغraquo; إلى هذه الدول والعقود الضخمة التي أبرمها معها. ومن ذلك مثلاً عقد نفطي بقيمة 30 مليار دولار مع كازاخستان، وآخر لإنتاج النفط واليورانيوم بقيمة 15 مليار دولار مع أوزبكستان. ويبلغ حجم العقود الصينية مع الدول الآسيوية الخمس ما مجموعه 46 مليار دولار، أي أكثر بمئة ضعف عما كانت عليه العقود الصينية مع هذه الدول لدى استقلالها.

صحيح أن هذا التوسع الصيني يقلق روسيا، ولكنه يشكل أيضاً مصدر خطر على الهند التي تقف عاجزة أمام التوسع والتضخم الصيني في دول الجوار.

ولذلك تجد الهند أن لها مصلحة في تحقيق تسوية مع باكستان تفتح لها الطريق إلى آسيا الوسطى. ولكن ما هو مفتاح هذه التسوية المنشودة؟

تسارع الهند إلى التأكيد على أن المفتاح ليس في إعادة الحقوق الوطنية إلى الشعب الكشميري الذي يعتبر نفسه تحت الاحتلال الهندي منذ عام 1947. فهي تعرض مفتاحاً شبيهاً بالمفتاح الذي سبق أن عرضه شيمون بيريز عندما كان رئيساً لحكومة إسرائيل. إنه مفتاح المصالح الاقتصادية والتنمية الاجتماعية. وتتطلع الهند إلى تعاون اقتصادي مع العالم الإسلامي وخاصة في آسيا الوسطى، يتجاوز القضية الكشميرية.

والمساعي الحالية للتسوية بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل انطلقت أساساً من وعود أميركية بإنعاش الاقتصاد الفلسطيني ورفع مستوى المعيشة في الضفة الغربية وحتى في غزة. وكما تعاني باكستان من صعوبات اقتصادية حادة نتيجة لانعكاسات الحرب الأفغانية عليها، كذلك تعاني فلسطين من صعوبات اقتصادية خانقة نتيجة الحصار الإسرائيلي المضروب عليها.

ومع ذلك هناك فوارق عديدة في إطار هذه المقاربة، الفارق الأساسي الأول بين الهند وباكستان من جهة، وبين إسرائيل وفلسطين من جهة ثانية. فالهند وباكستان دولتان نوويتان وتملكان صواريخ بعيدة المدى. وكذلك إسرائيل. أما فلسطين فتفتقر حتى إلى السلاح الفردي لقوى الأمن الداخلي. ولكن كما أن هناك laquo;فوبياraquo; أو رهاب هندي- باكستاني متبادل، هناك laquo;فوبياraquo; مماثلة إسرائيلية- فلسطينية متبادلة أيضاً.

والفارق الأساسي الثاني هو أن الشعب في الهند وباكستان هو شعب واحد بأديان وعقائد مختلفة. ثم إنه شعب أصيل. بعكس الشعب في إسرائيل، فهو شعب غريب عن المنطقة استقدم للاستيطان فيها من شتى أقطار العالم، وذلك على حساب الشعب الفلسطيني الذي هجر من أرضه بالقوة المسلحة.

ولكن كما حدث الانقسام الكبير في الهند على خلفية دينية بين المسلمين والهندوس على رغم معارضة قيادات إسلامية وهندوسية للتقسيم (دفع المهاتما غاندي حياته ثمناً لمعارضته التقسيم حيث قتل على يد متطرف هندوسي) فإن تقسيم فلسطين في عام 1949 الذي أقرته الأمم المتحدة حدث على خلفية عنصرية بين الصهيونيين والعرب.

كانت بريطانيا لاعباً أساسياً في العمليتين. بل كانت اللاعب الرئيسي. فالهند قبل التقسيم كانت تحت احتلالها. وكذلك كانت فلسطين. تركت بريطانيا الهند بعد أن تحولت إلى مسرح لمذبحة عامة قتل فيها مئات الآلاف وهجر خلالها مئات الملايين. وتركت بريطانيا فلسطين بعد سلسلة مجازر ارتكبتها العصابات الصهيونية laquo;الهاجاناraquo; وlaquo;الشترنraquo; وسواهما.. مما أدى إلى تهجير الفلسطينيين إلى الدول العربية المجاورة.

في شبه القارة الهندية شكل المسلمون دولة سموها باكستان. وفي فلسطين لم يسمح للمهاجرين أن يشكلوا سوى مخيمات للإيواء. ولذلك يمكن بشيء من حسن النية أن يتوصل الرئيس نواز شريف ومانموهان سينغ إلى تسوية بين الهند وباكستان.. أما أن يتوصل نتنياهو وعباس إلى التسوية فهي أضغاث أحلام.