مصطفى الفقي


أجمع المؤرخون وخبراء العلاقات الدولية المعاصرة على أن مصر نموذج للاستهداف الخارجي والضغط الأجنبي، فمصر منذ العصر الفرعوني وهي محط الأنظار ومركز الأطماع، توافد عليها الغزاة والبغاة والطغاة فتعاقبت عليها الغزوات الأجنبية منذ ما قبل الإسكندر إلى ما بعد بونابرت، وعندما حاول محمد علي إنشاء quot;إمبراطورية مصريةquot; امتدت من quot;منابع النيلquot; وquot;شرق إفريقياquot; جنوباً إلى quot;هضبة الأناضولquot; وquot;ساحل الشامquot; وبعض أقطار quot;المتوسطquot; شمالاً تكالبت عليه القوى الأجنبية وأجبرته باتفاقية quot;لندنquot; في 1840 على التراجع عن سياسته التوسعية والانكماش داخل الحدود المصرية في دولة وراثية له ولأبنائه، وعندما قاد الزعيم جمال عبد الناصر مصر نحو سياسة إقليمية قومية وجد مَن يقف له بالمرصاد وتكالبت عليه هو الآخر القوى الغربية والصهيونية ووجهوا له ضربة قاصمة بالنكسة العسكرية في يونيو ،1967 فمصر غير مسوحٍ لها بالانطلاق في محيطها وغير مطلوبٍ أيضاً أن تقع فتسقط المنطقة بأكملها! إنها معادلة quot;جيوبوليتيكيةquot; يصعب وجود نظير لها ولعلنا نشير إلى هذه المعاني من خلال الملاحظات الآتية:


* أولاً: إن مصر بلد فريد في هويته متميز في تركيبته لا نقول ذلك لأننا مصريون ولكن تلك معطاة تاريخية ترتبط بعنصر quot;الزمانquot;، وحقيقة جغرافية ترتبط بعامل quot;المكانquot;، وميراث حضاري يرتبط بتأثير السكان، إن مصر نسيج وحدها لذلك كانت دائماً بلداً متميزاً ودولة متألقة يشهد بذلك أعداؤها قبل المحبين لها، فهي quot;عربيةquot; quot;إسلاميةquot; quot;إفريقيةquot; quot;بحر متوسطيةquot; quot;شرق أوسطيةquot;، صارعت الزمان في كل العصور لأنها دولة ملتقى للحضارات، ومستضيفة للثقافات، فكان طبيعياً أن تتجه إليها الأنظار وتتوافد على أرضها الطيبة غزوات الطامعين وأطماع الحاقدين .
* ثانياً: إن استقراء التاريخ المصري يؤكد أن السياسة الخارجية المصرية ذات شخصية متميزة تقوم أساساً على توظيف فكرة الدور الإقليمي والدولي لتحقيق وضع اقتصادي أفضل، فمصر تبيع quot;سياسةquot; وتشتري quot;اقتصادًاquot;، فعندما يطير رئيس مصر إلى واشنطن أو بكين أو طوكيو على سبيل المثال فإنه يضع أمام المفاوض الأجنبي طبيعة الدور الإقليمي لمصر وجهودها في صناعة quot;السلامquot; بالمنطقة لكي يتحقق له وضع تفاوضي أفضل يلبي بعض المطالب الاقتصادية التي تتطلع إليها القاهرة في ظل ظروف معينة، ولقد عاشت quot;مصرquot; تاريخياً بنظرية quot;الدور الإقليميquot; الذي تتطلع إلى استعادته في أقرب وقت خدمة لأهدافها الاقتصادية والإنمائية والمعيشية .
* ثالثاً: لقد اختارت مصر أن تكون quot;عربية اللسانquot; quot;عروبية الوجدانquot; ولن يتحقق لها ذلك إلا بريادة قومية تجعلها محط الأنظار لأنها العمود الأوسط للخيمة العربية التي تظلل الأشقاء دائماً لذلك فقد خاضت الكنانة كل الحروب القومية من quot;حطينquot; وquot;عين جالوتquot; وصولاً إلى الحرب الظافرة عام ،1973 ولم تقصّر مصر في التزاماتها القومية حتى لو تعارضت مع بعض مصالحها الإقليمية، ولقد تراجع الدور الإقليمي لمصر نتيجة ظروف سياسية عابرة أو مؤثرات خارجية ضاغطة بفعل مخططات أجنبية أو أجندات لا تمت للروح القومية بصلة، ولعل quot;العصر الناصريquot; هو خير نموذج يشهد مؤكدًا لما نقول .
* رابعاً: ألاحظ كما يلاحظ غيري الحساسية المصرية المفرطة بل والحساسية العربية الزائدة لبعض الممارسات الأجنبية على سياستها الخارجية، فنحن نتصور وهماً أن كلمة (لا) تعني إعلان الحرب ونعتقد أيضاً أن الصراع محكوم quot;بالمعادلة الصفريةquot;، أو أن العلاقات الدولية محكومة باللونين الأبيض أو الأسود وهذا كله قول مبالغٌ فيه، وتصور أقرب إلى الوهم منه إلى الحقيقة لأن بين اللونين ظلالاً كثيرة يمكن أن تؤدي إلى مواقف مقبولة لدى الأطراف كحدٍ أدنى من كل جانب، ولقد شهدت العلاقات الأمريكية - العربية نموذجاً لهذا المفهوم عندما تصور بعض العرب ومنهم مصر أن الرضا السامي الأمريكي يفتح أبواب الجنة بينما الأمر غير ذلك تماماً، لا لأن من يتغطى بأمريكا عريان ولكن لأن المصالح الأمريكية ضاربة بجذورها في أعماق المنطقة فهي تسعى إلى حماية مصالحها البترولية وضمان أمن quot;إسرائيلquot; حتى لو كان الثمن هو التراجع عن بعض أهدافها المعلنة كما حدث مؤخراً في علاقات طهران وواشنطن، فالسياسة في النهاية مصالح مباشرة وليست أبداً مبادئ مثالية!


* خامساً: تسعى القوى الأجنبية أحياناً لضرب الاستقرار في مصر تحقيقاً لأهدافٍ قصيرة المدى أو بعيدة الهدف، لذلك كانت مصر ولا تزال مركز استهدافٍ على مر العصور لأن خبراء الاستراتيجية الدولية يدركون أن من يحوز مصر فقد حاز المنطقة بأسرها، وصدق البريطانيون عندما قالوا (إذا عطست مصر أصيب الشرق الأوسط بالإنفلونزا) فهي بحق درة الشرق، يتطلع إليها الجميع في الأزمات، ويلوذ بها الأشقاء في المحن وتقود العمل العربي المشترك في كل العهود .
* سادساً: إن المبالغة في استقبال الملاحظات الأجنبية والانتقادات الخارجية هو خطأ يؤدي إلى نتائج عكسية ويشعر الأطراف الأخرى بأن لها وصاية على مصر وأن ملاحظاتهم تزعج المصريين شعباً وحكومة وأنه مع المزيد من الوعيد وقوة التهديد فإن مصر سوف تتأثر بذلك وتتراجع عن سياساتها في نواحي الحياة المختلفة خصوصاً أن الغرب إذا عرف أن دولة معينة تستجيب لضغوطه وتضعف أمام تهديداته فإنه يستمرئ الحال ويمضي نحو المزيد من الضغوط .
سابعاً: يتعين علينا عرباً ومصريين أن نتعامل مع الدنيا من منطق قوة لا من إحساسٍ بالضعف، ويجب أن يدرك الجميع أننا دولة عريقة وعميقة وأن النيل منها أمر دونه الكثير quot;فما رماني رامٍ وراح سليماًquot; كما قال quot;حافظquot; في رائعته الخالدة .
تلك ملاحظاتٌ نسوقها في هذه الأيام الصعبة التي تمر بها مصر وهي تواجه تلك الضغوط الخارجية الهائلة في محاولة لإضعافها والإقلال من شأنها وتقويض مسيرتها وتعطيل quot;خريطة الطريقquot; أمامها وإخضاعها لسياساتٍ تتعارض مع مصالحها الوطنية وهويتها التاريخية ودورها الإقليمي وريادتها القومية ومكانتها الدولية .