حسن حنفي

إذا كانت علاقة الفكر بالسلطة وعلاقته بالواقع علاقة خارجية، مرة مع الأعلى، وهي السلطة، ومرة أخرى مع الأدنى، وهو الواقع، فإن علاقة الفكر بالمنهج علاقة داخلية صرفة يتحدد فيها توالد الفكر ونشأته ومساره واتساقه. فالمنهج هو الذي يعطي الفكر طابعه، وفكر بلا منهج لا تتحدد معالمه. وأزمة الفكر القومي هي في حقيقتها أزمة منهج، ومخاطره، إنما هي نتيجة لخلل في المنهج. وأهم المخاطر في علاقة الفكر بالمنهج هي:

1- الأوهام لا الوقائع: يتعامل فكرنا القومي مع أمور يظنها وقائع، وهي في الحقيقة أوهام أو تخيلات. وبالتالي يصبح فكرنا القومي ضحية خداع في الإدراك، فيتوجه نحو ظلال الأشياء بدلاً من أن يتوجه نحو الأشياء ذاتها. وتعني الأوهام كل اعتقاد مبني على حكم مسبق دون أن يثبته البرهان، أو تفسير الوقائع بعلل مجهولة أو بعلل بعيدة وليس بالعلل القريبة المحسوسة التي يمكن قياسها أو التعرف عليها. وتزخر أمثالنا الشعبية بذلك. والأخطر من هذا أن الأمر لم يقتصر على كونه سمة في فكرنا، بل أصبح سلوكاً يومياً.

وتنشأ الأوهام من نقص في التعقل، وعدم معرفة كاملة بقوانين الطبيعة ومجريات الأمور. فكلما تقدم الشعب في المعرفة وفي العلم تقلصا الأوهام من فكره. كما تنشأ من تعويض نفسي لما ضاع عن الإنسان ويود انتظاره أو الحصول عليه في المستقبل، بعد أن ضاع منه في الماضي والحاضر فتتشخص الحاجة وتصبح وهماً.

2- المسلَّمات ليست موضوعاً للبحث: في فكرنا القومي عدة حلقات مغلقة هي المسلمات التي لا يجوز الاقتراب منها أو الحديث عنها. والأخطر من ذلك أن بعض هذه المسلمات تتحول إلى محرمات، وقد تصبح موجهات للسلوك، وتتحول أخيراً إلى تابو Tabou على ما يقول الأنثروبولوجيون. ويظن البعض أن هذه المسلمات أو المحرمات قد وجدت منذ البداية في عقولنا وأنها مقولات منطقية أو لامنطقية، مثل الكم والكيف والجهة والإضافة أو الممكن والواجب والمستحيل أو العام والخاص أو الكلي والجزئي، لأنها في حقيقة الأمر تنشأ نشأة تجريبية خالصة نتيجة لظروف اجتماعية معينة.

وفي فكرنا القومي محرمات ثلاثة: الدين، السلطة، والجنس. هي مناطق محذورات، تند عن البحث ولا سبيل للإنسان أمامها إلا التوقف. والأعجب من ذلك أن هذه المسلمات قد تؤدي وظائف التعمية والتغطية والتستر. فالدين في شعور البعض لا يوجه السلوك ولا يدافع عن الفقراء، ولا يقضي على الفروق بين الأفراد ولا يمحو التفاوت بين الطبقات. والسلطة في نفوسنا قد نرفضها ونتملقها. والجنس في حياتنا قد نكشفه ونحجبه. والصمت عن الحديث عن الجنس قولاً قد لا يدل على الفضيلة، فقد يكون هو الموضوع الأوحد لحديث النفس الباطني.

والحقيقة أن هذه المحرمات تتولد نتيجة عصور التخلف. فالتدين ليس سراً، بل إن أهم ما يميز الوحي في آخر مراحلة هو غياب الأسرار، وسيادة العقل. فالحق إشارة إلى كل ما هو عام وشامل ومستقل في عالم الماهيات والمثل أو عالم الديمومة والثبات. وهي عوالم تؤيد التجارب الإنسانية وجودها. ولدينا من الدين ظواهر محسوسة في أشخاص الأنبياء والكتب المقدسة، وحوادث التاريخ ومن التجارب البشرية التي كثيراً ما نجد دلالاتها في النصوص الدينية. كما أن السلطة ليست أمراً لا يحل للجماهير الاقتراب منه أو إبداء الرأي فيه أو الرقابة عليه، بل السلطة من الشعب وللشعب أو كما قيل: الأمة مصدر السلطات، والسلطة تعبير عن الواقع الاجتماعي للأمة. قد تكون حكماً للأغلبية أو حكماً للأقلية، قد تكون شعبية دستورية أو فردية. السلطة إذن موضوع للبحث في علوم السياسة والاقتصاد. والولاية في تراثنا وظيفة اجتماعية، بيعة وشوري. كما أن الجنس ليس سراً بل هو أحد مكونات الطبيعة البشرية، وأحد دوافع السلوك ومصدر للإبداع الفني، بل هو عند البعض أساس السلوك الأول ومنشئ الحضارة والمدنية. وفي النهاية laquo;لا حياء في الدينraquo;!

3- المنهج النازل لا الصاعد: فإذا كسر الفكر الطوق، وخرج عن نطاق المسلَّمات، فإنه يستعمل المنهج النازل وهو البداية بمصدر مسبق للمعرفة في نص أو تراث، في تقاليد أو في سنن ثم يستنبط منها أحكاماً يصدرها على الواقع الذي عليه أن يتقبلها رضي أم لم يرض. وهو المنهج الذي يعتمد على سلطة الكتاب أو سلطة الموروث. يقوم هذا المنهج على افتراض أن جميع الحقائق والمعارف قد وضعت مسبقاً في مصدرها أعطى للبشر أو لم يعط في صورة علم ديني أو غير ديني، وعلى الإنسان أن ينتقي منه صورة لواقعه. هو مصدر حوى كل شيء: ما حدث، وما يحدث، وما سيحدث، مهمة الإنسان هي العثور على صورته في هذا المصدر وتطبيقها. وغالباً ما يحدث الاختيار طبقاً للرغبات والأهواء والمصالح الفردية أو الاجتماعية فيقرأ الإنسان ذاته في المصدر المسبق، ويختار ما يهوى، ويجد في نفسه الرضا والهناء في أن حكمه على الأمور سليم وشرعي، وأن سلوكه مرضي عنه. وإرضاء للظاهر، كثيراً ما ينشأ سلوكان: سلوك مطابق للمصدر المسبق في الظاهر، وسلوك حقيقي في الباطن نابع من الطبيعة التي لم تفهم ومن الواقع الذي لم يحلل.

وقد أخذ المنهج النازل شكلاً سياسياً، وذلك لأنه يتفق مع مركزية السلطة مصدر القرار، ومفسرة الظواهر، ومنظرة الأحداث. فالسلطة في الغالب هي الموجهة للمؤسسات الدستورية والصحفية، وهي المحددة لبرامج التعليم، وقد تصدر القوانين على نحو استنباطي من رغبات السلطة وتصوراتها. وقد حدث ذلك أيضاً في تراثنا القديم عندما تصور الفلاسفة فيض العالم في نظرية الصدور المشهورة وأن كل ما في هذا العالم إنما هو تجلّ من تجليات نظرية الفيض. كما ظهر أيضاً في علم أصول الفقه، وذلك بترتيب مصادر الشرع الأربعة ترتيباً تنازلياً وإعطاء الأولوية للنص على الواقعة. وقد حاول التصوف وحدة قلب المنهج من نازل إلى صاعد، ولكنه أصبح فردياً خالصاً يقوم في بدايته على مجموعة من القيم السلبية مثل الصبر والرضى والتوكل ثم يستمر كعلم لبواطن القلوب لا يستند إلى عقل وينتهي إلى وحدة شاملة تتم في الخيال وبالوجدان دون أن تكون هناك وحدة حقيقية في العالم الخارجي بين الواقع والمثال في صورة نظام سياسي.

لقد قامت النهضة في الغرب بعد اكتشاف تعارض هذا المصدر المسبق للمعرفة مع بداهة العقل وتجارب الحس. ولما كان مصدرها المسبق تم عرضه على العقل فكان معقولاً خاصة عند الفلاسفة والمعتزلة، كما عرض على التجربة فكان علمياً عند علمائنا القدامى، ومن ثم فلا خوف من استعمال المنهج الصاعد الذي يبدأ من الواقع إلى المثال، ومن التجربة إلى المعنى، فتكون الطبيعة عاقلة في الفلسفة ومستقلة في الكلام، وتبدأ مصادر الشرع بالقياس ثم الإجماع ثم السنة ثم الكتاب. نبدأ بعلم الإحصاء لمعرفة مكونات الواقع، وبالتجارب لمعرفة أسس الفكرة، وعلى هذا النحو نعيد بناء فكرنا القومي على النص.