جمال خاشقجي

ما بين laquo;النصرةraquo; و laquo;داعشraquo;، والأنبار وحلب وlaquo;القاعدةraquo; والعشائر، اختلط الحابل بالنابل، في مشهد سوريالي لا تكاد تبين فيه الحقائق، ومن هو الثائر ومن هو المتطرف والإرهابي. أنصار laquo;القاعدةraquo; يقولون إن laquo;داعشraquo; خرجت عن الجادة، فتسألهم: وهل laquo;القاعدةraquo; على الجادة؟ المتشككون يقولون laquo;داعش صنيعة النظامraquo;، والمقصود بـ laquo;النظامraquo; هنا السوري والعراقي والإيراني! كيف ذلك وهم يكفّرون الشيعة ابتداءً، على غير أهل السنّة الذي يعطونهم فرصة لقبول منهجهم، فإن امتنعوا كانوا مرتدين؟

وزير العدل العراقي حسين الشمري اتهم laquo;رؤوساً كبيرة في الدولةraquo; بتهريب المعتقلين من laquo;داعشraquo; في تموز (يوليو) الماضي من سجنَي أبوغريب والتاجي لتقوية تنظيم laquo;الدولة الإسلامية في العراق والشامraquo; الذي يحارب بشراسة في سورية، وذلك خدمة لنظام بشار الأسد الذي يحتاج وجودَ laquo;القاعدةraquo; لتحويل الثورة الشعبية إلى إرهاب، فيتحول هو بالتالي من ديكتاتور يحارب شعبه المُطالب بالحرية إلى بطل يحارب الإرهاب، غير أن السيد الشمري سحب تصريحاته الخطيرة هذه الثلثاء الماضي وقال إنها كانت مجرد تحليل وليست معلومات.

قادة في laquo;الجيش الحرraquo; يؤكدون ما ذهب إليه الشمري، بل استعرض أحدهم صوراً لضباط في الاستخبارات السورية يقفون بفخر مع رجالات laquo;داعشraquo; وقد أطلقوا لحاهم وارتدوا الأسود من الثياب التي أضحت شعار مقاتليها، ولكن لـ laquo;داعشraquo; بلاءها الحسن في الحرب على النظام، فلقد اقتحمت مطار منغ ومراكز عدة للنظام، ولكنها أيضاً اعتقلت من يفترض أنهم إخوتها في الجهاد، وأعدمت كثيراً منهم، ومنهم أمير جبهة النصرة في الرقة، جناح laquo;القاعدةraquo; الآخر في سورية، وهو ما أكده قائد الجبهة أبومحمد الجولاني في رسالة مسجلة وزعها قبل أيام في معرض شرحه لأسباب اضطراره للمشاركة مع بقية المجاهدين في الحرب على laquo;داعشraquo;.

مراسل laquo;العربيةraquo; في البحرين الزميل محمد العرب المتابع الجيد لنشاط laquo;القاعدةraquo; في العراق، أرسل إلى أصدقائه رسالة عنونها laquo;خرافة داعش رأي خاصraquo; يقول فيها: laquo;بعد 30 سنة من الآن سوف تخوف الأمهات أبناءهن اسكت اسكت، لا تجيك داعشraquo; أو laquo;إذا ما تأكل أصحيلك داعشraquo;، وإذا سأل الطفل أمه laquo;يمه.. شنو داعش؟ شلون شكلها؟raquo; فتجيبه الأم laquo;ابني ما أحد شافها بس يقولون هاي سعلوة تلبس أسود بأسود وتغطي وجهها بلثام أسود، وترفع رايات سودة، وتركب حصان أسود وتأكل كل مين ما يسمع كلام أمهraquo;.

إنه لا ينفي وجود laquo;داعشraquo;، وإنما يشير إلى غموض هذا التنظيم، الذي يقاتل الأنظمة ويتعامل معها، يحارب جيش المالكي في الفلوجة والأنبار ولكنه يتواجه مع العشائر التي تعارض المالكي وحكومته، يقتحم مقار النظام السوري بانتحاريين وكذلك يفعل ضد مراكز المجاهدين، قتل خلال الأيام الأخيرة صحافيين وناشطين سوريين سبقوه في الثورة على بشار قدر ما قتل الأخير، فما هو هذا التنظيم الذي رفض أن يسمع ويطيع أمير تنظيم laquo;القاعدةraquo; أيمن الظواهري وكفّر الجناح الآخر لـ laquo;القاعدةraquo; في سورية، ووصفه بالردة؟

إنه فكرة ومنهج أكثر منه تنظيماً، يتسمى بأسماء عدة عبر تاريخه، ولكن عرفه الناشطون الإسلاميون الذين احتكوا به باسم laquo;المكفّراتيةraquo;، هكذا سمعت الشيخ عبدالله عزام يسمّيهم، مع غيره من الناشطين العرب الذين سبقوهم في المجيء إلى أفغانستان وبيشاور، عندما ظهروا في بيشاور أواخر الثمانينات تحت ذريعة المشاركة في الجهاد ضد السوفيات. كان المصريون من laquo;الجماعة الإسلاميةraquo; وعرب قلائل من جنسيات عدة كانوا نتاج السجون والتعذيب والغضب، نواة هذه الفكرة البغيضة، وكانت عقيدتهم تقوم على تكفير الأنظمة والحكام ومن في دائرتهم. أذكر أن أول صدام حصل بينهم وبين المتطوعين العرب عندما استولى عدد منهم على قافلة مؤن تتبع هيئة الإغاثة الإسلامية السعودية داخل أفغانستان وقتلوا عدداً من حراسها. كان حدثاً مستهجناً يومها في بيشاور، أما اليوم، فمثل هذه الحوادث حصل عشرات المرات في سورية خلال الأشهر الماضية، فكانت مع غيرها من التجاوزات القشة التي قصمت ظهر أكثر من بعير وأدت إلى ضيق الجماعات المقاتلة هناك وحشدها لإعلان الحرب على laquo;داعشraquo;.

لقد سبق هذا التيار laquo;القاعدةraquo; وأسامة بن لادن في التأسيس، بل يمكن القول إن أسامة -وهو رمز laquo;القاعدةraquo;- قد التحق بهذا المنهج بعدما كان جهادياً مثل تلميذه الحالي أبومحمد الجولاني، الذي يحاول التحرر من منهج التكفير، ثم أسبغ عليه مسمى laquo;القاعدةraquo; عام 1996 عندما أعلن مع الظواهري في مؤتمر صحافي بأفغانستان laquo;الجبهة الإسلامية لقتال الصليبيين واليهودraquo;، وفتحا باب التطوع للتنظيم، واستسلم بن لادن لمنهج التكفير بعد طول مقاومة.

إنهم laquo;الجماعة الإسلاميةraquo; في مصر في التسعينات، يوم كانت تقتل السياح وتسرق متاجر الأقباط، وكانت laquo;الجماعة الإسلامية المقاتلةraquo; في الجزائر في الوقت نفسه تستبيح القرى وتقتل وتسبي وتنهب، وكذلك قيل يومها إن المخابرات الجزائرية اخترقت التنظيم لتخلق حالاً من الخوف والهلع بين صفوف المواطنين ليلتفوا حولها في مسعاها لاقتلاع الإسلام السياسي من الجزائر. توجد كتب تقدم روايات لتلك الحقبة، ولكن لا توجد أدلة دامغة، مثلما لا يوجد اليوم ما يثبت أن المخابرات السورية أو العراقية اخترقت laquo;داعشraquo;، غير أدلة ظرفية وتصريحات خائفة، مثل التي أدلى بها الوزير العراقي الآنف الذكر التي سحبها لاحقاً.

فكر laquo;داعشraquo; هو المخيف، وهو ما يستحق التحليل والفهم، ذلك أنه لا يزال هناك من هو متعاطف معه، والدليل أنه على رغم قبحه والرفض الشعبي له، الذي تجلى في سورية خلال الأيام الماضية، هناك من هو مستعد لتمويله سراً، وهناك شاب غرّ مستعد للانتحار بسيارة مفخخة وسط مجاهدين يراهم مرتدّين ويراهم المجتمع الدولي خطراً على مستقبل سورية. إنه تطرف التطرف، فهل ثمة صورة سوريالية أكثر من laquo;سعلوةraquo; محمد العرب؟