سمير عطا الله


هذه أطول فترة متواصلة أمضيها في بيروت منذ سنوات، أي ما يزيد على الشهرين. لكثرة ما الأشياء مكررة، اكتشفت أن يومياتي تغيرت من تلقاء نفسها. انخفضت قراءتي للأخبار المحلية بنحو 97 في المائة. قلّت متابعتي لنشرات الأخبار وكل ما يتعدى موجزها. استبدلت بالبرامج الحوارية كتابا قديما. ألغيت تماما الإصغاء إلى تكهنات تشكيل الحكومة وأرقامها: 8+8+8 أو 9+9+6 أو نصف laquo;8 آذارraquo; - نصف laquo;14 آذارraquo;.

اكتشفت أن المهم في لبنان ليس الحرص على السلامة الجسدية بل على السلامة النفسية. كيف يمكن أن تفهم أن تشكيل حكومة يمكن أن يؤدي إلى تفجير البلد، وأن تطبيق الدستور يهدد بالحريق؟ البلد فيه برلمان ممدد له بلا ضرورة، وموعد رئاسته المقبلة وشيك، ولا حكومة فيه، ولا مرجعية قانونية، ومع ذلك ينزلق طوعا وعنادا نحو الخراب، ولا مكان لصوت العقل ولا لكلمة طيبة. لا شيء سوى الوعيد.

دخلت الأحزاب عالم الأفلاك. كل قارئ بخت تلفزيوني يمثل حزبا ما ويقرأ بخت اللبنانيين وفقا لمشيئة زعامة الحزب. وإحدى القارئات تظهر كل شهر لتعد الناس بإقفال البنوك وانتشار الدماء وشارات الحداد، وتسميها الزميلة فاطمة العبد الله في laquo;النهارraquo;: laquo;سيدة الإلهام الشهريraquo;. وبرامج البخت الوطني هي الأكثر شعبية وإدرارا للإعلانات لأن ثمة شعبا يعاني من حالة وهن نفسي مريع، وفقد الثقة بكل شيء ولم يعد له سوى البصّارين. كل فرد يبحث في حالة الضعف عن كذبة جميلة، لكن اللبنانيين صاروا يرتضون الكذبة البشعة والبشارة السيئة. بلد بلا حكومة وبلا قانون وفيه نحو مليوني نازح سوري، وأهله يبحثون عن الحلول عند البصّارات. الرئيس ميشال سليمان هو ثاني رئيس (الأول كان إلياس سركيس) يعلن قبل انتهاء ولايته بأشهر أنه يرفض التمديد، لكي يعطي البلد فرصة كافية للبحث عن خلف. ومع ذلك فالدنيا قائمة عليه لأنه لا يريد أن يترك الدولة في الفراغ. يتحدث اللبنانيون ضد القانون وضد الوحدة وضد السلم وكأن هذه هي اللغة العادية. يهددون ويتوعدون وكأنهم مجموعة خنادق تنتظر إشارة الانطلاق.

لا أعتقد أن هناك مكانا للبلد الذي عرفناه ذات يوم، والناس الذين عرفناهم ذات يوم، واللغة التي عرفناها ذات يوم. تدور في سوريا والعراق حروب دمارية هدامة لا مثيل لها منذ هولاكو، ونحن في لبنان نتسمّر أمام التلفزيونات لنعرف من قارئي الأبراج إلى أين نسير. وإحدى هؤلاء لا تتحدث كبصّارة وإنما كصاحبة قرار في أقدار البشر والبلدان. وقد سئلت إن كان البلد سيعرف فترة أعياد آمنة، فضربت يدها على الطاولة: laquo;بطمنكم. روحوا عيّدواraquo;. وقد تميز عيد رأس السنة بانفجارين: الأول، قتل كبير المسالمين، محمد شطح، والثاني قتل صاحبه. ومعهما قتل شيء من استقرار لبنان، وإلى اللقاء في البرامج المقبلة.