محمد خليفة


في ظل انشغال الجميع ساسة وشعوباً، خاصة في العالم العربي، بتداعيات ما يُسمى بالربيع العربي في تونس وليبيا ومصر، والوضع المأساوي في سوريا، والاحتقان القائم في العراق، تجرى الآن مباحثات بين quot;إسرائيلquot; ودولة فلسطين بهدف التوقيع على معاهدة السلام . ورغم انعقاد هذه المباحثات لا تزال quot;إسرائيلquot; مستمرة في بناء المستوطنات، والجدران العازلة .
ومن هنا، فإن الخطر الداهم على الشعب الفلسطيني خاصة، والشعوب العربية يتخطى حدود الكارثة، لأنه خلال التاريخ البشري كله لم يسبق أن حصل مثل هذا الخلل في تفسير العقيدة المادية، وكذلك عند تطبيق المنهج الأركيولوجي Archeology، الذي يفسر الآثار والمعالم الحضارية وتكوّن وتطور الشعوب خلال الزمان quot;الجواهر الثابتة والماهياتquot; . فسياسة quot;إسرائيلquot; العسكرية والاقتصادية والاجتماعية كانت ومازالت تتعارض وطبيعة الأشياء في المنطقة، كما أنها تتعارض وأبسط قوانين الاجتماع والتاريخ، فالقوة عندما توجه ضد طبيعة الأشياء، فإن مآلها حتماً إلى الهزيمة والإخفاق . فquot;إسرائيلquot; حتى في ذروة انتصاراتها في المعارك التي خاضتها ضد الأمة العربية، كانت تشعر بالقلق الذي يرافق القناعة الباطنية بأنها قد ربحت معركة، ولكنها لم تربح حرباً، وأن المعركة التي ربحتها قد زادت في حاضرها تعقيداً، وفي مستقبلها خوفاً وترقباً، وذلك بسبب مناهضتها المكشوفة للنزعة الإنسانية والأنطلوجية، ومجافاتها كل مكونات القوانين الأخلاقية الإنسانية الحديثة والمعاصرة، بما فيها أشكال التعقل والعقلانيات الحديثة، ما يدفعها إلى إنكار دور البشر في المساهمة في أحداث الأرض، ثم إلى إنكار واقعية الزمان التاريخي للشعب الفلسطيني، وذلك بسبب تعاظم مطامحها، وآخر هذه المطامح هو قرار الحكومة quot;الإسرائيليةquot; بناء جدار في منطقة الأغوار على حدود الأردن، وبرر رئيس وزراء quot;إسرائيلquot; بنيامين نتنياهو إقامة هذا الجدار بالقول: quot;إن quot;إسرائيلquot; تريد ترتيبات أمنية صارمة على حدودها الشرقية مع الأردن ك

مقدمة للتوصل إلى تسوية مع الفلسطينينquot; . وقد اعتبرت الحكومة الأردنية يوم الخميس الماضي الموافق 2 يناير/كانون الثاني أن مشروع ضم غور الأردن إلى quot;إسرائيلquot; مخالف لاتفاقية السلام الموقعة بين عمان وquot;تل أبيبquot; .
يرى بعض المتفائلين أن تسوية الصراع quot;الإسرائيليquot; الفلسطيني، ربما تختلف هذه المرة عن المرات السابقة، وسط إلحاح من قبل الولايات المتحدة . لكن شكل هذه التسوية، وخاصة ملف عودة اللاجئين، وأوضاع الأسرى، فهذا أمر غامض وسري بانتظار إعلان الاتفاق النهائي . لكن بلا ريب فإن أية تسوية لن تكون إلا على حساب الشعب الفلسطيني، لأن التسوية العادلة تقتضي عودة الغرباء الذين جاؤوا إلى أرض فلسطين بحجة أنها quot;أرض الميعادquot; من حيث أتوا من أقطار الأرض، وتقتضي أيضاً عودة الفلسطينيين الذين تم تهجيرهم من أراضيهم في طبرية وصفد ووادي الشريعة وحيفا ويافا وعكا وغيرها من المدن والقرى والمزارع في أرض فلسطين .
إن من الظلم أن يتم طي هذا التاريخ بجرة قلم، ومن الظلم أن يتم اختصار المسألة، وكأنها صراع سياسي وخلاف في وجهات النظر بين الشعب الفلسطيني وبين quot;الإسرائيليينquot; . إن المسألة ترتبط بحضارة وثقافة أمة يراد استبدالها بحضارة مصطنعة، وتاريخ مصطنع لأمة تائهة في أضاليل التاريخ .


لن ينسى العرب فلسطين، لن ينسوا عروبتها المهددة وتاريخها الذي يُراد تشويهه وطمسه، كما طُمس العديد من آثارها التاريخية، فلن ننسى عكا تلك المدينة التي أسقطت حملة نابليون في الشرق، فعاد خائباً إلى فرنسا . فهل يمكن أن تسقط عكا العربية إلى الأبد، ويندثر تاريخها، وتتحول إلى تاريخ آخر وثقافة أخرى؟ . ولو نظر quot;الإسرائيليونquot; إلى ما حل بالصليبيين في عكا في الزمن الغابر، لكانوا أقلعوا عن أوهامهم . لكن للباطل جولة وللحق دولة . ومنذ احتلال quot;إسرائيلquot; للضفة الغربية بعد عدوانها على العرب عام ،1967 أعلنت الأغوار منطقة عسكرية مغلقة، وتشكل الأغوار 30% من مساحة الضفة، وهي تحاذي نهر الأردن، وتمتاز عن غيرها من المواقع الفلسطينية بكونها تطفو على بحر من المياه الجوفية، وتمتاز بالتنوع البيئي والحيوي، كما أن أراضيها خصبة جداً، ومنخفضة عن سطح البحر، وقد يصل انخفاضها إلى أكثر من 300 متر . ومنذ أن سيطرت quot;إسرائيلquot; عليها، عملت على تفريغها من الفلسطينيين، ومحاربتهم في لقمة عيشهم، ومنعهم من البناء، ومصادرة أراضيهم، وإقامت المستوطنات عليها . ولذا فقد تراجع عدد الفلسطينيين فيها من 250 ألفاً عام 1967 إلى أقل من 50 ألفاً في السنوات الأخيرة .
ولأنها البوابة الشرقية للدولة الفلسطينية العتيدة، فقد عملت quot;إسرائيلquot; على فصلها عن محيطها العربي من خلال تشجيع الاستيطان الصهيوني فيها، فقامت بشق شبكة من الطرق الرئيسية، لتسهيل ربطها مع quot;إسرائيلquot;، لا سيما شارع 90 الذي يربط شمال الأغوار بجنوبها داخل أراضي عام ،1948 ولا تتوقف الإغراءات للمستعمرين، فلديهم من الامتيازات ما يفوق بقية المتواجدين في مستعمرات الضفة الأخرى، وذلك من خلال إنشاء مشاريع صناعية وزراعية وسياحية . ويبلغ عدد المستعمرات في منطقة الأغوار حتى الآن 21 مستعمرة، وهي في ازدياد في ظل متابعة quot;إسرائيلquot; لمشاريع الاستعمار الاستيطاني في الضفة ومنها منطقة الأغوار . من أجل تحويل التجمعات العربية إلى جزر معزولة وسط بحر كبير من المستعمرين الغرباء، وبذلك يتحقق الحلم الصهيوني بمنع وجود دولة فلسطينية في غرب نهر الأردن .
إن إقامة جدار عازل في منطقة الأغوار على حدود الضفة مع الأردن، هو جريمة بحق الإنسانية، لأنه سيجعل الشعب الفلسطيني الذي يعيش في الضفة داخل معتقل كبير، فمن الغرب هناك جدار عازل يفصله عن أراضي عام ،1948 ومن الشرق هناك جدار آخر يمنعه من التواصل مع إخوانه في الأردن . وفي ظل سعي quot;إسرائيلquot; إلى إقامة هذا الجدار الفاصل في الأغوار، فإن أي حديث عن سلام كامل وشامل هو مجرد أوهام، فquot;إسرائيلquot; تريد سلاماً يناسب شكلها ومقاسها، سلاماً يعطيها كل شيء، ويمنع الفلسطينيين حتى من حق الحياة على أرض آبائهم وأجدادهم .


ولذلك نقول إنه إذا كانت quot;إسرائيلquot; ترغب حقاً في السلام لا الاستسلام، فعليها أن تبادر إلى وقف بناء الجدار العازل في منطقة الأغوار، واحترام حق الفلسطينيين في الحياة .