مسعود ضاهر

في ظل أزمة سياسية مستفحلة تشهد الساحة اللبنانية صراعاً تناحرياً يُهدد بانفجار كبير بين مكوناته السياسية والطائفية في ظل ضغوط إقليمية متزايدة. فلبنان اليوم في دائرة التجاذبات الإقليمية، وبات من الصعب جداً تشكيل حكومة وطنية جامعة في لبنان لا يرضى عنها طرفا النزاع في الداخل.

وبما أن منصب رئاسة الجمهورية عرضة للفراغ بعد 25 مايو 2014، إلى جانب برلمان ممدد له دون أسباب دستورية موجبة، وحكومة تصريف الأعمال إلى جانب حكومة لم تبصر النور منذ تكليف رئيسها بإجماع شبه تام قبل أكثر من ثمانية أشهر، بات تشكيل حكومة جديدة يحتل أولوية مطلقة في لبنان.

وعد الرئيس المكلف تمام سلام بتأليف حكومة المصلحة الوطنية. لكنه آثر التريث والصمت إلى أن حانت اللحظة في الأيام القليلة الماضية للحديث جدياً عن تأليف الحكومة. وقد بدأت فعلاً مرحلة تحديد الأسماء، وتوزيع الحقائب، وبلورة الخطوط العريضة للبيان الوزاري الذي يُسيّر شؤون الحكومة المرتقبة. وذلك يعني أن القوى الإقليمية والدولية حريصة على استقرار لبنان وتجنيبه المزيد من الاضطرابات.

أبرز التشكيلات المقترحة توزيع الحصص في الحكومة الجديدة بنسبة ثمانية وزراء لجماعة حزب الله وأمل والتيار الوطني الحر وحلفائهم، ونسبة مشابهة لتيار المستقبل وحلفائه من القوات اللبنانية والكتائب، وثالثة مشابهة أيضاً لكتلة الوسط التي تضم رئيس الجمهورية والنائب وليد جنبلاط ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي.

تتأرجح فرص التأليف صعوداً وهبوطاً بين التفاؤل والتشاؤم. فهل تضم الحكومة العتيدة ممثلين للأحزاب السياسية الفاعلة على الساحة اللبنانية أم تكون غير حزبية؟. وهل سيكون هناك ثلث معطل؟ وهل تسمح الطوائف الكبرى بأن يسمي رئيس الجمهورية وزراء منها كوسطيين لا يرتبطون بطوائفهم؟ وفي حال فشل التوافق، هل ستشكل حكومة تكنوقراط من موظفين كبار؟ علماً أن تشكيلها يعتبر تحدياً لكتل سياسية كبرى ترى أن المرحلة الدقيقة التي يمر بها لبنان بالغة الخطورة وتحتاج إلى حكومة أقطاب، على غرار ما جرى بعد ثورة 1958، وليس إلى حكومة تكنوقراط يمكن القبول بها في مرحلة الاستقرار الداخلي وفي ظروف إقليمية ملائمة.

رغم الكلام التفاؤلي حول قرب ولادة حكومة لبنانية جامعة يغلب التردد والحذر من النوايا المبيتة للقوى السياسية المتنازعة والتي تنتظر نتائج مؤتمر جنيف 2 المقرر انعقاده في الثاني والعشرين من يناير 2014. وقد حذّرت سفارات أجنبية عدة رعاياها من أن الفترة التي تفصلنا عن انعقاد المؤتمر، قد تشهد تفجيرات دموية كبيرة في أكثر من منطقة لبنانية.

في الوقت عينه، يعمل حكماء اللبنانيين على تدوير الزوايا لتأليف حكومة وفاق وطني جامعة. ويطالبون أطراف الصراع بالابتعاد عن التشنج السياسي والشحن الطائفي، ويرفضون عزل أي طرف سياسي مهما كانت الأسباب والذرائع. فسياسة العزل الموصى بها من الخارج مرفوضة بالكامل. وأثبتت التجارب السابقة في لبنان أنها مستحيلة وعديمة الفائدة، وتهدد أمن لبنان واستقراره. كما أن سياسة التحدي والاستقواء بقوى إقليمية ودولية مدانة من جميع اللبنانيين.

لذلك حرص رئيس الجمهورية، العماد ميشال سليمان، على رفض سياسة التحدي، أو الاستقواء بالخارج، وعدم إقصاء أي طرف سياسي عن التشكيلة الحكومية. وأعطى الوقت لتشكيل حكومة وطنية جامعة. لكنه أعلن مؤخراً أنه لن يبقى مكتوف اليدين في حال بقي كل طرف متمسكاً بشروطه، وسيكون مضطراً لتشكيل حكومة المصلحة الوطنية برئاسة تمام سلام.

بيد أن لبنان بحاجة إلى حكومة شرعية ودستورية ووفاقية وميثاقية جديدة تتولى شؤون اللبنانيين. فحكومة تصريف الأعمال لم تكن جامعة لأن نصف القوى اللبنانية تقريباً غير ممثلة فيها. ولا يمكن لحكومة مستقيلة أن تتولى مهام رئاسة الجمهورية في حال عجز اللبنانيون عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية في موعده الدستوري.

عدم التوافق على حكومة جامعة يُشكّل خطراً إضافياً على أمن لبنان واللبنانيين. والتهديد بحكومة الأمر الواقع مؤشر على عدم دستوريتها وشرعيتها وميثاقيتها. فكيف تدير حكومة مخالفة للدستور لبنان على أسس دستورية؟ وتشكيل الحكومة غالباً ما يراعي التوازنات السياسية والطائفية والمذهبية والمناطقية للحفاظ على الصيغة اللبنانية المبنية على التعدد الطائفي والتنوع المذهبي، واحترام الدستور.

وعليها مراعاة توزيع القوى السياسية داخل مجلس النواب الذي له وحده حق منح الثقة للحكومة أو حجبها عنها في حال لم يقتنع النواب بدستوريتها، وببيانها الوزاري، أو مخالفتها لميثاق العيش المشترك بين الطوائف اللبنانية.

الحكومة الجديدة لن تُعمّر طويلاً بل تنتهي مدتها فور انتخاب رئيس جديد للجمهورية. وبعد توافق الكتل السياسية اللبنانية على تشكيلتها، يكون من صلاحيتها إدارة شؤون لبنان. وفي حال عدم انتخاب رئيس جديد للجمهورية، تتخوف بعض القوى السياسية من أن تكون حكومة الأمر الواقع مؤشراً على تمديد الفراغ في رئاسة الجمهورية إلى أجل غير مسمى. فتتعطل جميع المؤسسات الشرعية في لبنان، وتتعرض المؤسسات الأمنية لضغوط داخلية وإقليمية تؤدي إلى تفكيكها كما حصل في الحرب الأهلية لسنوات 1975- 1989.

ويخشى اللبنانيون من عودة حكم الميليشيات وقوى الأمر الواقع. لذلك تتجه أنظارهم لتشكيل حكومة وطنية وميثاقية ودستورية جامعة. وهناك مؤشرات إيجابية تؤكد على وجود رغبة حقيقية بتشكيل هكذا حكومة بمساندة إقليمية ودولية حفاظاً على وحدة لبنان.

إن تشكيل حكومة سياسية جامعة لا تستثني أحداً، وتعتمد مبدأ المداورة في تولي جميع الحقائب الوزارية هي أفضل الصيغ المتاحة أمام اللبنانيين.

والحكومة التوافقية الجامعة ضمانة وطنية في حال تعذر إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها. وهي الوحيدة المؤهلة لنيل ثقة مجلس النواب، واتخاذ قرارات ملحة لقبول الهبة السعودية لتسليح الجيش اللبناني، وإصدار مراسيم استخراج النفط اللبناني وتسويقه. في حين أن حكومة أمر واقع تتعرض لطعن دستوري في ميثاقيتها وتمثيلها السياسي، وتزيد من حدة الأزمة السياسية، وتهدد استقرار لبنان وأمن اللبنانيين. والأخطر من ذلك أنها تدخل لبنان دائرة الخطر الشديد في ظروف إقليمية ودولية متفاقمة.

ويأمل اللبنانيون أن تنجح جهود رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء المكلف في تشكيل حكومة المصلحة الوطنية القادرة على جمع الكتل السياسية الفاعلة على طاولة الحوار لاختبار حلول توافقية تحصن لبنان وتحمي وحدة أرضه وشعبه ومؤسساته.