عمار علي حسن

من دون شك فإن الدستور الذي استفتي عليه الشعب المصري يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين يتعدى مجرد الوثيقة الدستورية التي ينطوي عليها إلى تأسيس شرعية جديدة، وإحراز نوع فارق من النصر على جماعة laquo;الإخوانraquo;، التي أعلنتها الحكومة المصرية laquo;إرهابيةraquo;، فضلاً عن فتح الباب أمام بناء نظام سياسي جديد في البلاد. فمن يتحفظون على بعض مواد الدستور، أو من يوافقون عليه برمته، بلا أي ملاحظات أو تحفظات، يدركون تماماً أن الخطوة التي ستبدأ اليوم أكبر بكثير من أن تكون مجرد استفتاء على دستور، بل تتعدى ذلك إلى تقديم برهان ناصع على أن ما جرى في 30 يونيو ثورة شعبية أنجبت إرادة لم يكن أمام الجيش من طريق سوى أن ينحاز إليها، مثلما انحاز إلى إرادة الناس في ثورة 25 يناير، حين أجبر أحد قادته الكبار وهو حسني مبارك على التخلي عن الحكم، ثم جيء به فيما بعد إلى قفص المحكمة.

كما يرمي أولئك الذين زحفوا نحو صناديق الاستفتاء إلى تعزيز الدرب الذي شقته laquo;خريطة الطريقraquo; التي انطلقت يوم 3 يوليو 2013، والذي يشكل الدستور أولى الخطوات القوية عليه، وستأتي الخطوات الأخرى متمثلة في انتخابات رئاسية وبرلمانية ومحلية، بل قد يتعدى الأمر هذا إلى رغبة جارفة في تمتين الشرعية الثورية التي نشأت في 30 يونيو، ولا تزال فصولها جارية، وفي طريقها إلى التحول نحو laquo;شرعية دستوريةraquo; تبدو الأكثر رسوخاً منذ رحيل مبارك وحتى هذه اللحظة مروراً بسنة من حكم جماعة laquo;الإخوانraquo;، شابها الخروج على الشرعية غير مرة، وشهدت دخولاً من قبل السلطة في حرب مفتوحة ضد مؤسسات الدولة في وقت واحد.

وإذا كان دستور 2012 بدا في مضمونه العميق خطوة كبرى نحو إضفاء شرعية على خطة laquo;تمكينraquo; جماعة laquo;الإخوانraquo;، فإن الدستور الحالي يبدو في نظر الأغلبية العظمى من المصريين خطوة أكبر نحو استعادة الدولة المصرية، حتى لو لم يكن يحقق كل ما كان يحلم به الثوار. وفيما سيكتفي أناس بما ورد في الدستور، ويعتبرونه إنجازاً في حد ذاته، فإن هناك من سيسعى في السنوات المقبلة إلى تعديل بعض المواد، لاسيما تلك الخاصة بالمحاكمات العسكرية للمدنيين، وعلى رغم أنها جاءت أضيق بكثير وأكثر تحديداً من مثيلتها التي حواها دستور laquo;الإخوانraquo;، فإن تغير الظروف بمرور الوقت سيجعل كثيرين غير مقتنعين باستمرار هذه المادة. وفي كل الأحوال فإن تغير موازين القوة داخل المجتمع، قد يجعل الفئة المتغلبة أو المهيمنة أو صاحبة النفوذ الأعلى أو المسيطرة على مجلس النواب راغبة في تعديل بعض المواد، وهي مسألة حدد لها الدستور طريقاً واضحاً. وفي النهاية فإن الأمر سيعود إلى الشعب في استفتاء عام.

إن كثيراً من الدساتير قد تُفرِّغها من مضامينها القوانين والتشريعات المنبثقة عنها أو التي تسن في ركابها أو رحابها، وهذه آفة مزمنة في مصر، ولكن يبدو أن الأغلبية الكاسحة من المصريين غير معنية في هذه اللحظة بتلك الهواجس النابعة من تقاليد متوارثة، إما اتكاء على ثقة الناس في قدرتهم على التغيير، وفرض إرادتهم، أو لأن كثيرين لا يرون الانشغال بالتفاصيل عملاً مفيداً في هذه اللحظة الحرجة، ومن ثم فإنه لا مفر من إقرار الدستور، وبالتالي فما نحن مقدمون عليه اليوم، هو أبعد من دستور.

وقد يكون من الخطأ أن نربط الدستور بحسابات سياسية عارضة أو طارئة. وهذه وجهة نظر بعض من يرون أن الدستور وضع ليعيش زمناً طويلاً، وبالتالي يتجاوز الآني والحالي، ذاهباً إلى الآتي والمستقبلي، ليضع في الحسبان أحوال وظروف الأجيال المقبلة، وليس الاكتفاء باحتياجات ومطالب من يعيشون في الوقت الراهن، ولا ما يفرضه الصراع السياسي والاجتماعي الذي يمكن أن يهدأ بعد قليل.

وهذا رأي صحيح ولكنه يتجاهل عدة أمور، أولها أن إمكانية تعديل الدستور قائمة، بل إن الدستور ينص على هذا في مواده، ويضع الشروط ويعود في النهاية للشعب ليقر التعديلات أو يرفضها من خلال الاستفتاء. وثانيها أن مواد هذا الدستور انطوت على أمور تحقق مطالب فئات عريضة من المصريين، ولا أتحدث هنا عن الفلاحين والعمال والصيادين والنساء والشباب وذوي الاحتياجات الخاصة والطلاب والتلاميذ والمرضى والقضاة والمحامين والكُتاب والصحفيين وغيرهم، ولكن أيضاً بعض المناطق أو الأطراف الجغرافية التي حرمت طويلاً من اهتمام السلطة، وظلمت في عملية توزيع عوائد التنمية. كما أن مواد الدستور تخلق laquo;توازناًraquo; بين السلطات أفضل مما ورد في كافة الدساتير السابقة، وإن كانت المواد التي عالجت هذه النقطة تفترض أن لدينا حياة حزبية ناضحة، وهو أمر غير متواجد في الواقع، ولكن احتمالات تحققه في المستقبل قائمة. وفي كل الأحوال العبرة ليست بالنصوص فقط وإنما بالممارسة أو التطبيق، التي تحددها القوانين والتشريعات اللاحقة.

وثالثها أن هذا الدستور يهندس عملية سياسية مغايرة لتلك التي كانت تريد جماعة laquo;الإخوانraquo; أن تأخذ إليها الدولة المصرية، ومن ثم فإن الإطار العام الذي ينطوي عليه الدستور سيؤثر، من دون شك، على طبيعة التفاعلات السياسية المستقبلية، ولاسيما أن جزءاً من الفساد والاستبداد في مصر نجم عن تأبد الحكم في موقعه، وهي مسألة لم تعد قائمة بفضل ثورة يناير، التي فرضت تجاوز ما قرره مبارك من انتخابات رئاسية شكلية، بتعديل المادة 76 من دستور 1971، بطريقة كانت تمهد الطريق أمام نجله لتولي الحكم.

أما الجانب الرابع فإن الدستور، ومهما كان فيه من تعميم أو تجريد أو حياد، يعكس في جانب منه طبيعة الصراعات الاجتماعية، وتوازن القوى بين مختلف الفئات والشرائح والطبقات، وهي مسألة قابلة للتغيير، ووقتها يمكن أن تعدل بعض المواد لتتماشي مع الأوضاع الجديدة، مع الأخذ في الحسبان أنه مهما كانت الطبقة المهيمنة أو المجموعة المسيطرة على الحكم فلم يعد بوسعها أن تتجاهل تغير الثقافة السياسية للمصريين بعد الثورة، وكسر حاجز الخوف، ووجود ثورة تطلعات أو توقعات لم تهدأ بعد، وتنامي الكتلة الاجتماعية الحرجة التي تطالب بالتغيير إلى الأفضل دوماً، ولديها استعداد تام لتقديم التضحيات في سبيل تحقيق هذا.

ولكل هذا فإن المخاوف من ربط الدستور بصراع سياسي، مثلما فعل laquo;الإخوانraquo; في دستورهم، لا ينبغي أن تأخذنا بعيداً، في حكمنا على صناعة هذا الدستور برمته، وعلى ما فيه من مواد جيدة، ولا النقلة التي يشكلها في الحياة السياسية والاجتماعية شرط الالتزام بتطبيق بنوده في الواقع المعيش.