إياد أبو شقرا

ما زال الوقت مبكرا للحكم على النجاح الكامل للتجربة التونسية في حقبة ديمقراطية ما بعد صدمة «الربيع العربي».


ما زال الغبار لم ينقشع بعد عن نتيجة أول انتخابات ديمقراطية حقيقية ارتضى بنتيجتها الطرفان المتنافسان؛ وذلك استنادا إلى مناشدة المنصف المرزوقي جمهوره المعترض ضرورة احترام «اللعبة الديمقراطية»، وتهنئته الصريحة الرئيس المنتخب الباجي قائد السبسي.


نعم، رغم المشاعر الطيبة ما زلنا في بداية الطريق.. ولكن مع هذا لا بد من تسجيل بعض الملاحظات.


ولنبدأ بأن تونس، التي هي رائدة ثورات «الربيع العربي»، كانت قد دخلت أصلا مرحلة انتخابات ما بعد الفترة الانتقالية بمستوى معقول من الاستقرار والتفاهمات السياسية العريضة.


وربما يشاء البعض منا التقليل من أهمية دور قوى «المجتمع المدني» التونسي ذاتها.. عبر الإشارة إلى أن التجربة التونسية اتّعظت من الدرس القاسي لذلك «الربيع» في الدول العربية الأخرى التي شهدت منذ انتفاضات 2011 دوامة من العنف والدمار والانهيار، ولكن الأمانة تقضي بالقول أيضا إن قوة هذا «المجتمع المدني» صمدت رغم التعايش الطويل مع «عبادة الفرد» في عهد الحبيب بورقيبة، ثم «الدولة البوليسية» التي أسّستها ذهنية خَلَفه الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي.


في تونس حافظت قوى النفوذ والسلطة على وجودها وكذلك على توازنها:
1- العسكر لم «يتعسكروا» إلى حد تحوّلهم إلى ميليشيا طائفية تقتل الناس وتدمّر المدن والقرى وتمزّق نسيج المجتمع كما حصل ويحصل في سوريا.


2- التيار الإسلامي لم يرتكب خطأ تعجّل «التمكين»، كما حدث في مصر، حيث أقلقت ممارسات الرئيس محمد مرسي طيفا واسعا متنوعا من خصومه ووحّد لهم صفوفهم خلال سنة واحدة فقط من حكم الإسلاميين.
3- لم ينسَ التيار اليساري أولوياته القائمة على الالتزام بالنضال المطلبي الشعبي، بعكس بعض اليسار في دول شقيقة أخرى كلبنان والعراق، حيث انخرط بطمع طفولي في رهانات أكبر منه، ودخل تحالفات انتهازية تكتيكية مخالفة لطبيعته أضعفت صدقيته حتى عند جمهوره.


4- وأخيرا لا آخرا، لم تتح في تونس الفرصة لآفات الطائفية والفئوية والعشائرية والجهوية كي تتناهش جثة الوطن كما نرى في اليمن وليبيا.


في تونس، مع تكرار التأكيد أن الوقت ما زال مبكرا للجزم بمآلات الأمور، ظلت في البلاد بنى تحتية ومؤسّساتية وقوى مجتمعية منظّمة تعي مصالحها ومصالح البلاد وتتنبّه لمكامن الخطر ومزالق قطع خطوط الرجعة. ومن المثقفين إلى النقابيين، ومن مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية إلى الإنتليجنسيا الحكومية، كان واضحا منذ 2011 الحرص على تحاشي شفير الهاوية... عبر صيَغ توافقية وجد الأفرقاء المعنيون أنه لا بد منها في ظل إخفاق أي حزب بالفوز بالأغلبية، ومع استيعاب حقيقة أن حجم التغيير، ومن ثم البناء، أضخم من أن يرسمه تيار واحد وفق مصلحته الضيقة وخلال فترة زمنية قصيرة.


حزب نداء تونس، الذي يصفه مناوئوه بأنه «امتداد لعهد ما قبل 2011» قد يكون جزئيا كذلك، لكنه يظلّ أيضا أكبر من هذا الوصف التبسيطي. إنه تنظيم فضفاض جمع البورجوازية المدنية في كبريات مدن تونس وشمالها مع التيارات العلمانية والوسطية، وحرص - ولو لفظيا - على النأي عن فساد المرحلة السابقة للثورة ومحسوبيّاتها العائلية، وضيق أفقها ومصادرتها الحرّيّات العامة بأساليب بوليسية فجّة ومكشوفة. وهذا في الحد الأدنى موقف مسؤول يحترم الثورة ومسوّغاتها، تماشيا مع روح بيتي الإمام الشافعي:
اقبل معاذير من يأتيك معتذرا
إن برّ عندك فيما قال أو فجرا
فقد أطاعك من أرضاك ظاهره
وقد أجلّك من يعصيك مستترا
ومن ثَم، شكّل هذا الحزب جاذبا للقوى التي اختارت المحافظة على علمانية الدولة من دون الهيمنة الأمنية، واحترام الهوية الإسلامية كهويّة جامعة من دون تحوّلها إلى حاضنة لجماعات إلغائية ترفض الحوار إلا بلغة الرصاص والاغتيالات. ولعل حالات التطرّف المسلّح التي ظهرت عبر جريمتي اغتيال المناضلين محمد البراهمي وشكري بلعيد، والأوضاع المضطربة في جبل الشعانبي، والنسبة العالية المقلقة للمقاتلين التونسيين مع «داعش» في سوريا، ناهيك من مخاطر فوضى الحالة الليبية وراديكاليتها، نبّهت كثرة من التونسيين إلى احتمال وجود صلة ما بين «إسلام سلطة معتدل» و«تطرّف إرهابي يتزيّا بزي الإسلام» ويرفع شعاراته وراياته. وبالتالي، تناقصت نسبة أصوات حركة «النهضة» وتراجعت القوى الإسلامية إلى المرتبة الثانية.


في المقابل، أبدت «حركة النهضة» نسبة لا بأس بها من النضج السياسي، وأبدت - مختارة أو مضطرة - الاحترام لبيئتها ومكوّنات مجتمعها، فلم تتعجّل الإمساك بكل مفاصل القرار، بل فضّلت طمأنة الجمهور إلى استمرار التزامها بالحرّيّات العامة والشعارات الديمقراطية التي كانت ترفعها عندما كانت في المعارضة. وهي عبر عملها السياسي السرّي والعلني داخل تونس وخارجها، كانت تعرف جيدا أنه ليس بمقدور أي طرف تونسي المزايدة بموضوع الإسلام في بلد يشكّل المسلمون، وسوادهم الأعظم من السنة، أغلبية ساحقة من مجموع السكان (أكثر من 98 في المائة).


ثم إن قرب تونس الجغرافي من أوروبا وعُمق تفاعلها الثقافي والاقتصادي والاجتماعي أسهما في إكساب الشخصية التونسية - الإسلامية والعلمانية - بُعدا «متوسطيا» اعتاد الحوار والتنوّع، ومرونة عملية للتعاطي مع كل التحدّيات، فاعتبرت الحريات العامة والتنظيمية من المُكتسبات المهمّة التي تحققت منذ الحقبة الاستقلالية على الرغم مما شابها من أخطاء، وعليه فهي توفّر ضمانة لممارسة العمل السياسي عند تداول السلطة.


ما نجده اليوم أن التونسيين وجدوا لهم مصلحة مشتركة في الاستقرار، والحفاظ على المؤسسات، وترك اللعبة الديمقراطية تأخذ مجراها على أساس «لو دامت لغيرك لما وصلت إليك». وهذا، بعدما أكّد الشعب التونسي أنه حتى في حال أخطأ الاختيار في صناديق الاقتراع، أو طال صبره على التجاوزات، قادرٌ على فرض التغيير بمجرد إدراكه أنه بلغ طريقا مسدودا.. كما حدث في أواخر 2010 ومطلع 2011.
تحية حارّة إلى «الخضراء»...