عبد الوهاب بدرخان

في السنة المنصرمة هزّ الإرهاب وجداننا بعنفه الأسود، وشئنا أم أبينا غدا جزءاً من انشغالاتنا، ومن صحوننا اليومية. يخترق بدايات النهار صباحاً، ويجتاح نشرات المساء بالصور المقززة. يغزو مواقع التصحّف بالأشرطة ويتسلل إلى اقتناعاتنا بما يرتكبه من القتل والسبي والرجم، مدّعياً وجود ما يسمّيه «فتاوى» لإجازة سوءاته. لم يعد ذلك الخطر الذي يضرب بعيداً، في نيويورك أو بالي أو كابول، ولا قريباً لكن في بلدان ابتليت بقتال أهلي، بل صار وباءً يُخشى استشراء عدواه أينما وجد واحد من المتعاطفين مع تنظيم «داعش» أو «المبايعين» لزعيمه أو «العائدين» من تجربة دموية في صفوفه. الفارق بينه وبين وباء «إيبولا» أن الأخير لن يجد متعاطفين معه وأن ضحاياه ظلّوا أقلّ رغم التلكؤ الدولي في مكافحته.

&

يستمرّ التحقيق مع العسكريين في العراق لمعرفة حقيقة ما حصل في الموصل ذلك العاشر من يونيو، والآمال ضئيلة في تحديد الوقائع والمسؤوليات طالما أن التحقيق لم يشمل بعد المستوى السياسي الذي يفترض أنه تصرّف وفقاً لواحد من ثلاثة احتمالات: إما أنه تلقى إشارات الانذار ولم يقدّر خطورتها، أو أهملها، أو بادر إلى إعطاء الأوامر بالانسحاب. غير أن التحقيق الأكثر صواباً ينبغي أن يبدأ من مرحلة زمنية تسبق ذلك اليوم بثمانية عشر شهراً، وربما بإحدى عشر عاماً. ولا بدّ له أن يعرّج على «المساعدة» التي تلقاها التنظيم كي ينسلّ إلى سوريا ويجد أن ظروف انتشاره الجغرافي تتيح له أن يصبح اسمه «الدولة الإسلامية للعراق والشام»، أو «داعش»، قبل أن يصبح «الدولة الإسلامية». ففي البلدين، وعبر الحدود السائبة والمفتوحة أمامه، وجد بيئات سكانية مألومة وبائسة تنتظر أي مارق يبعد عنها، ولو مؤقتاً، مخاطر الموت قتلاً أو جوعاً، بل وجد الكثير من الأيدي المستعدة لمؤازرته ولأسباب متفاوتة.

قبل أن يظهر «داعش» كان الاحتقان المذهبي، السُنّي - الشيعي، تجاوز كل الضوابط. وبعد ظهوره أصبح الصراع مكشوفاً. لا أحد يدّعي أبوّة «داعش»، ولذلك فإن انكفاءه وزواله محتّمان. لكن العالم العربي وجد أنه محكوم قسراً بخيارين سيئين ومرفوضين: إما «داعش» وإما النفوذ الإيراني وأجنداته الإقليمية. حتى صار «انتصار» أحدهما محدداً لما يمكن أن يكون عليه المستقبل العربي. لوهلة، ولأن اسمه دولة «إسلامية»، فقد وُجد من «العلماء» من يتجنّب التعرّض له، لمجرد أنه يرفع علماً له خلفية في السيرة النبوية. ولأنه يدّعي الاسترشاد بـ «دولة الخلافة» وإعادتها فقد استشكل الأمر على البعض، إذ لا يمكن مهاجمة من يعملون باسم الإسلام ولخدمته. ولأن لـ «فتاويه» إسناد «شرعي» مستمدّ من وقائع تاريخية غابرة أو ممارسات كانت لها ظروفها ولم تعد، فقد تحرّج هذا وذاك ممن يسمون مراجع في تسفيه أولئك الانتهازيين المتقوّلين. ولأن «داعش» ناصر السنّة في العراق ضد مضطهديهم الشيعة، ولأنه تحالف مع مجموعات أخرى مارست المقاومة ضد الاحتلال الأميركي، فقد تضاعفت التبريرات الواهية لتقبّله كأنه كل ما استطاع العرب أن ينتجوه لإنهاضهم من عثرتهم. ولأن إرهاب «داعش» احتل المسرح على خلفية الصراع بين المجتمعات وجماعة «الإخوان المسلمين» في العديد من البلدان، فقد فهم أيضاً صعوده كما لو أنه في السياق السياسي الجاري. ولعل التردد والتأخر والتلكؤ أدى إلى مساءلة المسلمين أنفسهم: هل هذا هو إسلامنا؟ لحسن الحظ أن رد المؤسسات الدينية ما لبث أن تعدّل، لكنه لا يزال ببعض الضبابية، ليس مناصرة لـ «داعش» بل لمحاولة إبعاد بعض «الثوابت» الإسلامية من عبث الإرهابيين.

لكن العام المنصرم سيبقى العام الذي اكتشفنا فيه أن الإرهاب ينشأ تحت عباءة بعض الجماعات الحزبية المتنكرة بالدين. ولأنه «يغرف» عقائده من التخلّف العلمي والتعليمي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي، فقد صرنا نسائل أنفسنا هل ساهمنا فرادى وجماعات في احتضان هذا الوحش الذي خرج من أحشائنا. فإذا كان هؤلاء عرباً ومسلمين، فلا بدّ أن علينا جانباً من مسؤولية توحّشهم وتهوّرهم، حتى لو كانوا هامشيين. لكننا اكتشفنا أيضاً أن مجتمعات أخرى، غير عربية وغير مسلمة، لم تتمكّن من استشراف خطر هؤلاء الهامشيين. ولعل أكثر ما يقض مضاجعنا أن الذين نعتبرهم «أصدقاء» وجاؤوا لمساعدتنا في القضاء على «داعش»، لا يتوانون في استخدام هذا الخطر الداهم وحتى في إدامة الصراعات المذهبية لأهداف شتى تخدم مصالحهم بعيدة المدى.
&