عبد المنعم سعيد

حصاد العام الماضي (2014) يقود فورا إلى «التنبؤ» بما سيكون عليه الحال في العام الذي يليه (2015) الذي نحن فيه الآن. هذه العادة يبدو أنها كامنة في الإنسان، وهو يبدو دائما غاضبا على العام الذي يعيش فيه، ولم أصادف خلال 66 عاما أناسا كانوا راضين عن العام الذي ذهب للتو. الغريب أنه ما إن تمضي السنوات حتى نجد من يتحسر على السنوات التي ذهبت، وتجري «نوستالجيا» كيف كانت الحياة في الأربعينات والخمسينات والستينات، وهكذا، من القرن الماضي.


صحيح أن بداية القرن الحالي لا تزال قريبة، ولكن وقتها سوف يأتي، ويتحسر الناس على أيام «الربيع» و«الثورة» و«الشباب» الذي ولّى، وربما يبتسمون عندما يتذكرون كيف كان «الكومبيوتر» بدائيا في تلك الأيام، أو هاتف «أندرويد» الجوال، وكيف كان ذلك هو العصر «البرونزي» للاتصالات.


ببساطة، الزمن يحدث له نوع من الانحراف التاريخي، وهذا الانحراف يمتد إلى المستقبل، حيث يختلط التوجس والتشاؤم والتفاؤل في كوكتيل نفسي وعاطفي فيه من السعادة قدر، وربما من التعاسة أقدار. علماء الاجتماع عادة ما يحاولون تجنب التنبؤ. الاقتصاديون وحدهم لديهم الجرأة على الخوض فيه، وأخيرا فإن خبراء الاستراتيجية لا يترددون في خوض التجربة. سبب الشجاعة هنا الضغط الشديد من أصحاب المصلحة الاقتصادية الذين يريدون معرفة مقدار نمو الاقتصاد العالمي، وفي أي قطاع، حتى يعرفوا أين ومتى يستثمرون.. أما أصحاب المصلحة الاستراتيجية، فإنهم لا يستطيعون اتخاذ قرار سياسي واستراتيجي، إلا إذا كانوا يعرفون حالة الاستقرار من عدمها، ومن سيكون العدو، ومن سيبقى صديقا. المهم أنه عندما سُئِل خبراء السياسة في مؤسسة «كارنيغي» عن المنطقة التي ستشتعل فيها الأزمات وتحصل على مقدمات النشرات الإخبارية وعناوين الصحف، قال 75 في المائة منهم إنها منطقة الشرق الأوسط.


الأسباب يمكن عدها؛ فالمنطقة لم تستقر، ولم تعرف السعادة عندما كانت أسعار النفط في عنان السماء، فكيف يكون الحال وقد هبطت الأسعار إلى السفح. ولم يكن الزمن مرحا، ولا فاز الإنسان باللذات عندما كان هناك «ربيع» عربي؛ فكيف يكون الحال وقد صار الربيع شتاء، ثم بعد ذلك أتى زمن ما بعد الربيع فإذا بالحال ركام فوق ركام؟
مجلس الشؤون الخارجية الأميركي متشائم هو الآخر من العام الذي جاء، وهناك عشرات المشكلات والأزمات العالمية المعلقة من أول أوكرانيا في أوروبا وتوابعها، من علاقات روسية غربية، وحتى سوريا، حيث تشتبك القوى الكبرى والإقليمية، والدين والدولة، والسنّة والشيعة، والقديم والجديد في منطقة قلقة تاريخيا بالصراعات والتراث، وربما يكون العام مرشحا للانفجار أو بالقرب منه. ولكن التشاؤم ليس سيدا للموقف بشكل كامل، فآرون ميللر خبير الشرق الأوسط في إدارة كلينتون والرجل الذي أعلن من قبل عن موت «عملية السلام»، التي لم تكن «عملية» ولا «سلاما» في جوهرها، كتب في مجلة السياسة الخارجية عن تفاؤله بالنسبة للعام المقبل. هناك بالطبع تحفظات معتادة، ولكن الرجل لديه قدر من الحجج التي يمكن الاستناد إليها؛ فأولا هناك إمكانية لصفقة نووية أميركية - غربية مع إيران، فصحيح أن العام الماضي لم يفلح في التوصل إلى اتفاق، ولكن هكذا تكون المفاوضات، وما مضى كان الفترة التحضيرية اللازمة، والإيرانيون عليهم ضغوط كبيرة، من أول أسعار النفط، وحتى العقوبات الاقتصادية.


وأوباما الذي دخل العام الثالث من فترة رئاسته الثانية، أصبح لا همّ له إلا دخول التاريخ، رغم عقبات الجمهوريين في الكونغرس، وهذه لا تحدث إلا في مجال السياسة الخارجية.
وإذا كان أوباما يستطيع فتح الطريق إلى كوبا الشيوعية على بعد 90 ميلا من فلوريدا، فإن فتح الطريق إلى طهران التي تحارب معه ضد «داعش» يصبح ممكنا. باختصار، فإن «الطبخة» نضجت على نار هادئة، وفي 2015 آن الأوان لالتهامها.


وثانيا فإن هناك انتخابات إسرائيلية في شهر مارس (آذار) المقبل تفتح الطريق لتغييرات جديدة في البنية السياسية الإسرائيلية. فإسرائيل مثل كثير من الدول «الديمقراطية»، أهم ملامحها الملل من القيادة التي تستمر لفترة طويلة، وقد جثم نتنياهو في منصبه أكثر من أي رئيس وزراء آخر في السياسة الإسرائيلية. وهناك في المقابل قيادات إما جديدة، مثل «هيرتسوغ»، في حزب العمل، أو «كديما»، ولكنها لم تأخذ فرصتها كاملة مثل ليفني. المزاج الإسرائيلي أيضا يتغير؛ فالمنطقة مستعرة بالمتغيرات، والعالم لا يكف عن التغير، ونتنياهو وحده باقٍ على حاله، وهكذا فقد آن أوان الرحيل. وهذا يفتح الباب فورا لـ«ثالثا»، وهو أنه مع رحيله يمكن أن تبدأ عملية سلام جادة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. هذا يعتبره آرون ميللر يبعث على التفاؤل لأن تسوية الصراع الأبدي في الشرق الأوسط تخرج منه شوكة تاريخية مؤلمة. بالطبع فإن بعضا من العرب، ومثلهم من الإسرائيليين، يدخلون ذلك في سياق التشاؤم، ولكن أيا كانت الدوافع، فإن ميللر يرى أن هناك مكونات جاهزة لمفاوضات جادة من أول المبادرة العربية، وحتى ضعف حماس، واختفاء بدائل أخرى عسكرية لدى الطرفين، فلم يعد هناك من حل إلا الجلوس على طاولة التفاوض.


ورابعا أنه رغم كل ما جرى في العراق منذ حرب الخليج عام 1991، وما تلا الغزو الأميركي، ثم الانسحاب الأميركي، من مصائب، فإن «غزوة داعش» يبدو أنها أيقظت الوطنية العراقية، وأعادت التوازن، أو بعضا منه، إلى السياسة العراقية، بعد أن تعلم السنّة من قبل، والآن الشيعة، دروسا لا تُنسى. إن ما جرى في 2014 خلق وضعا غريبا، وهو أن إيران بات لها مصلحة في دولة عراقية عازلة ضد التطرف والإرهاب.


أما أميركا أوباما، فقد أدركت أنها لا تستطيع الخروج من العراق بهذه السهولة، المهم هو أن تجد الطريقة المناسبة، فكانت ضربات جوية، ومعها 5 آلاف مدرب مقاتل، وتحالف واسع صريح مع دول غربية وعربية، وضمني مع إيران وسوريا بشار الأسد. النتيجة أن ما كان خطرا داهما قبل عام يؤدي للتفكك والانهيار، صار الآن بداية لنهاية خطر أكثر خطورة. وخامسا أن ما بعد «الربيع العربي» صحيح أنه أفصح عن ذوبان دول (سوريا واليمن وليبيا)، إلا أنه في النهاية لا تزال الدولة قائمة، ولديها كثير من الوظائف التي تقوم بها، وفي تونس تجربة نجاح ديمقراطي، وفي مصر دولة ثبت أنها تستطيع الصمود والتغيير.
خذ كل ما سبق واختر منه ما تشاء تفاؤلا أو تشاؤما، فالمستقبل (مثل الجمال) هو ما تراه أعين الناظرين.