فهمي هويدي

&في روسيا قانون جديد يعطي السلطة حق احتكار التاريخ. بمقتضاه لا تكون للسلطة الكلمة الأخيرة في الحاضر فحسب وإنما ينسحب نفوذها على الماضي أيضا. وهو قانون كان مسكوتا عليه، إلى أن استخدمته وزارة الثقافة لحظر شريط سينمائي جديد (فيلم) تم إنتاجه في جمهورية الشيشان باسم «أمر بالنسيان» وهو عمل درامي يروي قصة قرية شيشانية سكانها من المسلمين الذين أصدر الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين أمرا بترحيلهم قسريا إلى سيبيريا يوم 27 فبراير من عام 1944، أي قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، وكانت حجته في ذلك أن أولئك السكان من «الطابور الخامس»، الذي ينبغي الخلاص منه في ظروف الحرب.
قرار الزعيم السوفييتي استهدف ترحيل مسلمي جمهورية الشيشان ــ أنجوشيا (كما كانت تسمى في العهد السوفييتي) ونفيهم في غضون أيام قليلة. وهو ما أثار حالة من الذعر والرعب التي ركز منتج الفيلم رسلان كونانايف على تسجيل صداها في قرية «خيباخ»، التي كانت جدته تعيش فيها آنذاك وأصبحت ضمن ضحايا الكارثة. لم يعد للقرية وجود الآن بعد طرد سكانها وتهجيرهم وتحولها إلى أرض جرداء غير مأهولة، إلا أنها صارت مزارا يفد إليه في شهر فبراير من كل عام أحفاد المهجرين لإقامة مراسم الحداد التي يستعيدون فيها أهوال تلك المرحلة البائسة من تاريخ عائلاتهم. وهي طقوس استمرت طوال السبعين سنة الماضية بعد وفاة ستالين (في عام 1953).
في ذلك التاريخ المشئوم كان قد تم تهجير 250 ألفا من الشيشانيين. الذين عارضوا قرار الترحيل القسري. كانت الأوامر تقضي بإطلاق الرصاص عليهم وقتلهم، وقد عرض فيلم «أمر بالنسيان» مأساتهم، واستعان مخرجه حسين ايركيونف بشهادات الأحياء من ضحايا تلك المرحلة.


الفيلم لم يعرض بطبيعة الحال، ولكن مواقع التواصل الاجتماعي سربت لقطات قصيرة منه. وصورت تلك اللقطات حالة الذعر التي حلت بالأهالي، كما أنها صورت آلام الذين اضطروا لتنفيذ الأوامر العسكرية الصارمة بإجلاء السكان وقتل الرافضين للتهجير، ولم يكن بمقدورهم عصيانها.
صور أحد التسريبات مشهد جندي روسي مصدوم وذاهل وهو يتلقى أمرا بقتل طفل حديث الولادة لأنه صبي، لأن الأوامر كانت واضحة في التخلص من الذكور. ومشهد آخر للفوضى التي حلت بالمدينة حين أجبر الأهالي على بدء الرحيل في الساعة الخامسة صباحا من يوم 27 فبراير. ومشهد ثالث صور لحظات إصدار الأوامر بإشعال النيران في معسكر اعتقال أقيم على وجه السرعة في خيباخ لاحتجاز الذين رفضوا التوقيع على أوراق الترحيل. وكانت مشاهد الحرق الجماعي هي التي شكلت الذريعة الرسمية لحظر الفيلم، ليس بسبب قسوتها وبشاعتها، ولكن لأن وزارة الثقافة الروسية اعتبرت أن عمليات الإحراق الجماعية لم تحدث.
وفي رسالة وجهتها الوزارة إلى المنتج ذكرت أنها لم تعثر في أرشيف اللجنة الشعبية للشؤون الداخلية في الاتحاد السوفييتي (الشرطة السرية) على وثائق تثبت وقوع تلك الحرائق. واستندت الوزارة إلى ذلك في اعتبار أن الفيلم احتوى على مشاهد ومعلومات تزور الحقائق التاريخية وتثير الفتنة في المجتمع. ومن ثم أصدرت قرارها بمصادرته تنفيذا للقانون الجديد الذي يحظر تقديم رؤية تاريخية مغايرة للأحداث التي وقعت.
مؤسسة جروزني فيلم (المنتجة والاسم منسوب إلى عاصمة جمهورية الشيشان). أبدت استغرابها للذريعة المقدمة، واعتبر المنتج كونانايف أن قرار الوزارة يمثل إهانة لذاكرة الشعوب التي شهدت الكارثة. ورد التهمة قائلا إن موقفها هو الذي يمثل محاولة لتزوير الأحداث التاريخية عبر إنكارها.


ومن المفارقات أن مؤيدي قرار الحظر وأبواق السلطة أصبحوا يشيعون أن الذين يخالفون رأي السلطات بمثابة «طابور خامس» يخدم مصالح الغرب المشتبك الآن مع موسكو في صراع سياسي متصاعد.
وهي ذات التهمة التي وجهت إلى الشيشانيين في أربعينيات القرن الماضي لتسويغ تهجيرهم إلى سيبيريا. من تلك المفارقات أيضا أن وزارة الثقافة استندت في قرار حظر الفيلم على عدم ذكر الواقعة في أرشيف جهاز الأمن الداخلي، الذي كان ضالعا في ارتكاب الجريمة، ولذا كان طبيعيا أن يتجاهلها ولا يعترف بها، رغم أن بعض شهود الواقعة لا يزالون أحياء.
لا أعرف بماذا توحي إليك القصة. لكنني لن أستغرب إذا أعادت إلى أذهان البعض ذكريات نموذج الانتهاكات والجرائم التي ارتكبت على الأرض، لكن الأجهزة الأمنية أنكرتها وتلاعبت في تفاصيلها. وأصبحت روايتها مرجعا قدم صياغة مزورة للتاريخ اعتمد عليها في تحديد مصائر خلق كثير، إلا أن الدلالة الأهم للقصة عندي تتمثل في المدى الذي يذهب إليه جبروت الاستبداد.
ذلك أن الذين يمارسونه لا يكتفون باحتكار السلطة والثروة في الحاضر، ولا بتشويه المستقبل من خلال إضعاف المجتمع وإحراق البدائل المرشحة للصعود في الغد، لكنهم يعمدون أيضا إلى محاصرة الماضي وتأميم التاريخ للتستر على آثامهم وخطاياهم.
&