عمار علي حسن

على رغم ثورة الاتصالات التي حولت العالم إلى قرية كونية فإن الجغرافيا السياسية لا تزال قادرة على إقحام نفسها في تحديد العديد من الممارسات والسلوكيات الدولية والمحلية على حد سواء، ولا يزال بإمكانها أن تمنح وتمنع، تيسّر وتعسّر، وتفرض على صانعي القرارات ومتخذيها شروطاً من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تجاوزها، سواء في المسائل المتعلقة بالأمن أو تلك المرتبطة بالتنمية، أو حتى تلك التي لها صلات بإدارة الحروب والصراعات المسلحة، بدءاً بما يخص أساليب الدعم اللوجستي وانتهاء بوضع الخطط الحربية وتحديد سير المعارك.

والجغرافيا هي أحد مكونات نظرية القوة، التي رسختها مدرسة «الواقعية السياسية» في العلاقات الدولية، وقد أجملت عناصر قوة الدولة في الموقع الجغرافي، والموارد الطبيعية، والطاقة الصناعية، والاستعداد العسكري، والسكان، والشخصية القومية، والروح المعنوية العامة، ونوع الدبلوماسية، ونمط نظام الحكم، وبذا تبقى الجغرافيا هي أكثر العناصر استقراراً في بناء قوة أي دولة، وهي مسألة مستمرة على رغم التطور التقني الرهيب في وسائل المواصلات والاتصالات.

&


وتأتي التجارة في مقدمة المسائل التي لا تزال تتأثر بالجغرافيا السياسية، انطلاقاً من عمليات استخراج المواد الخام من الطبيعة وصولًا إلى عملية نقل البضائع براً وبحراً وجواً. وتلك المسألة ليست بنت العصر الحديث بل تعود إلى الأزمان الغابرة. ويظهر تأثير الجغرافيا على التجارة جلياً في مسألة تأمين الخطوط الملاحية ضد أعمال القرصنة البحرية، جنباً إلى جنب مع تأمينها من الخطورة التي تشكلها الرياح العاتية والعواصف، وكذلك تأمين القوافل التجارية البرية ضد قطّاع الطرق.

وهنا تبرز عملية نقل النفط والغاز الطبيعي باعتبارهما من أهم السلع التجارية الدولية لتظهر الدور الملموس الذي تلعبه الجغرافيا السياسية في هذا النوع من التجارة. فهذه التجارة لا تقتصر أنشطتها على التنقيب والاستخراج ومن ثم الإنتاج فالاستهلاك، إذ إن هناك مرحلة وسطى بين كل هذا تتعلق بوسائط النقل سواء كان بحرياً من خلال السفن أو الحاويات العملاقة، أو برياً عبر أنابيب تمتد آلاف الكيلومترات وتخترق حدود أكثر من دولة لتربط مراكز إنتاج النفط بأسواق استهلاكه. وفي هذا الصدد هناك دائماً ميزة نسبية للمناطق التي تتسم فيها عملية النقل هذه بالأمان النسبي. فشركات الطاقة الدولية الكبرى لا يمكنها إسقاط هذا العامل من الحسبان، وهي التي تنفق مئات بل آلاف الملايين من الدولارات على عمليات التنقيب والاستخراج والتكرير، وتعلم أن هذا لا معنى له دون نقل النفط المكرّر أو الخام إلى الأسواق العالمية.

وإذا كانت التطورات التقنية تسعى جاهدة إلى التغلب على المشكلات التي تضعها الجغرافيا السياسية في وجه عمليات نقل الطاقة فإن غياب هذه المشكلات لا يتوقف فقط على ما تتيحه التكنولوجيا الحديثة من وسائل بل هناك ضرورة للنظر في وجه آخر للمسألة يتعلق باستغلال بعض البشر لأوضاع جغرافية معينة في تعويق أو تهديد وسائط نقل الطاقة براً وبحراً. فالأنابيب التي تحمل النفط والغاز الطبيعي تخترق صحراوات شاسعة، والحاويات العملاقة التي تبحر بهما عليها أن تمر من مضايق تصل المحيطات بالبحار لتنتهي عند موانئ بالدول المستوردة للطاقة.

وهنا قد تجد بعض القوى السياسية المحتجة أو العنيفة، سواء كانت مناوئة لنظام محلي أو تسعى إلى النيل من قوة دولية كبرى تستورد كميات كبيرة من النفط والغاز، فرصة سانحة لتفجير هذه الأنابيب أو مهاجمة تلك الحاويات، من أجل تحقيق بعض أهدافها، التي تنحصر في احتمالات ثلاثة هي جني مكاسب مادية عن طريق بيع النفط، والضغط على الحكومات المحلية كي تلبي طلبات ملحّة لهذه القوى السياسية المعارضة أو العنيفة أو التي تمارس احتجاجاً مؤقتاً حيال ظرف محدد، وثالثها إيلام قوى كبرى في سياق صراع دولي بين إحدى هذه القوى أو بعضها وتلك الدولة وحلفائها.

وتطرح قضية تهديد وسائط نقل الطاقة نفسها بشدة على ساحة السياسة الخارجية لبعض الدول المنتجة للنفط والغاز من زاوية، والعلاقات الدولية من زاوية ثانية. فعلى المستوى العام تبين الممارسات السياسية السابقة أن هناك إدراكاً لحدوث انعكاس تلقائي لبعض الصراعات الداخلية نحو المجال الخارجي، وأن هناك ميلًا من قبل بعض القوى الخارجية للتدخل في الصراعات الداخلية لدول معينة، في حين تؤدي الصراعات الخارجية إلى تفاقم بعض المشكلات الداخلية، والعكس صحيح. وعلى المستوى الخاص يلقي التنافس الدولي حول الثروات النفطية ظلالًا على بعض الصراعات الداخلية في دول معينة، حيث ترى القوى الكبرى أن تخفيف حدة هذه الصراعات أو إخمادها قد يزيد من فرصها في الحصول على الكميات التي تريدها من النفط والغاز الطبيعي، ويحمي هذه الثروة من مخاطر التعرض لآثار سلبية جراء تفاقم تلك الصراعات.
&