الإعلام الأمريكي يختطف «شارلي ايبدو» لتوزيع سموم من الكراهية ضد المسلمين والعرب والفلسطينيين


رائد صالحة

لا توزع صحيفة «شارلي ايبدو» الفرنسية الساخرة أكثر من 300 نسخة في الولايات المتحدة رغم نجاحها في الاسبوع الماضي من طباعة أكثر من 3 ملايين في أول عدد صادر بعد الهجوم الذي تعرضت له وأسفر عن مقتل 12 شخصا. ولكنها أصبحت الآن قضية الإعلام الأمريكي والخطابات السياسية للبيت الأبيض وقادة الكونغرس وحديث العامة ومادة دسمها يستخدمها اليمين المتطرف واللوبي اليهودي من أجل مصالحه، وانتقلت سخرية «شارلي ايبدو» عديمة الذوق إلى عنوان أمريكي جاد للهجوم على الإسلام الراديكالي وخط أمامي في الحرب الثقافية مع المسلمين.


امتنع الإعلام الأمريكي الليبرالي مثل «نيويورك تايمز» و»ان بي سي» عن إعادة نشر الرسوم المسيئة للرسول عليه السلام ولكنه غرق في بحر من الآراء والتعليقات المسيئة لكل ما هو إسلامي بحجة الهجوم على المنظمات الإرهابية و»الإسلام الراديكالي» والدفاع عن حرية التعبير. أما الصحف اليمينية فقد كررت مشاهد الرسومات على صفحاتها لعدة أيام بطريقة استفزازية للغاية في حين تخلت بعض الصحف المعتدلة نسبيا مثل «يو اس اي توداي» عن مسارها ونشرت الرسومات جنبا إلى جنب مع افتتاحية تشيد برسامي الكاريكاتيرالذين تحولوا إلى أبطال و»شهداء» الدفاع عن أبسط القيم الغربية.
ورفضت إدارة اوباما القول بأنها في حالة حرب مع «الإسلام الراديكالي» وظهر جوش ارنست المتحدث الرسمي للبيت الأبيض واضحا في هذا الشأن، وفي حالات نادرة برزت تصريحات تحذر من الخلط بين الإسلام والارهاب مثل تعليقات هوارد دين، حاكم ولاية فيرمونت السابق، في برنامج «غود مورننغ جو» الذي قال ان المسلمين الذين قتلوا موظفي شارلي ايبدو ليسوا من المسلمين، وإذا استثنينا ذلك فان كل ما يجرى على الساحة السياسية والإعلامية الأمريكية كان بلا استثناء كعاصفة هوجاء ضد الشخصية الإسلامية.


صحيفة «نيويورك بوست» كانت أكثر وضوحا ووقاحة في التعبير عن مكنونات الإعلام الأمريكي حيث «اختطفت» مذبحة «شارلي ايبدو» ووظفتها لصالح أجندة غير مخفية. حيث نشرت الكثير من الاخبار والتحليلات والآراء التي ترى ان هنالك علاقة بين الإرهاب والإسلام كديانة مع استهتار فاضح لمقولة ان الإسلام دين سلام ووصلت وقاحة «نيويورك بوست» إلى اتهام الإدارة الأمريكية بالنفاق لانها لم تصل إلى الإسلام الراديكالي لتفسير الأعمال العشوائية المتطرفة، ولم يتحمل كتاب أعمدة الرأي في الصحيفة الموالية لإسـرائيل عدم استـــخدام البيت الأبيض لفظ الجهاديين دائما عند الحديث عن التطرف أو ارتكاب أعمال عنف.
الرسالة الأولى التي أراد الإعلام اليميني الأمريكي ارسالها بدون مواربة إلى الجمهور هي ان فهم الارهاب لا يأتي من حلقات النقاش والتفاعلات، بل من فهم معين للنصوص الإسلامية يقوم على ان السيف وليس التفاهم والسلام هو لغة الإسلام الحقيقية، وهي بالتأكيد رسالة خطيرة تهدف بالدرجة الأولى إلى تحويل الاحتكاك الثقافي والحضاري والديني بين المسلمين عامة والغرب إلى صدام.


الرسالة الثانية الماكرة التي خرجت بها الصحافة الأمريكية اليمينية بعد هجوم «شارلي ايبدو» كانت بالفعل فريدة من نوعها وهي باختصار الحديث عن معاناة اليهود في أوروبا وضرورة عودتهم إلى «وطنهم» واستحالة قيام دولة فلسطينية إلى جوار إسرائيل لان العرب لا يمكنهم التعايش مع غيرهم بدليل عدم قدرة أبناء المغرب العربي على التعايش مع الأوروبيين رغم وجودهم في القارة لعقود وكأن أهل فلسطين هم الذين استوطنوا البلاد. وقد ظهرت عدة تعليقات في «الدايلي نيوز» واخواتها تسأل بصراحة عن عدم الاهتمام بالدعوات الأوروبية المتزايدة لتهجير العرب من بلادانهم بعد الهجوم أو حتى العودة إلى آباء التاريخ الأمريكي الذين كانوا يطالبون بالعدل والمساواة باستثناء «الهنود الحمر» بينما تتعرض إسرائيل لانتقادات كانها «قاطع الطريق» الوحيد في العالم، هذه الرسالة الخبيثة ابتعدت تماما عن قضية «شارلي ايبدو» برمتها ولكنها كانت موضوعا للطرح أكثر من قضية حرية التعبير المفترضة للنقاش في حدث كهذا.
ما هي علاقة الشعب الفلسطيني بهجوم باريس؟ قد يبدو السؤال للوهلة الأولى في غاية الغباء ولكن السذاجة الحقيقية تكمن في الاعتقاد للحظة واحدة بان الإعلام الأمريكي لن يوظف أي حدث بهذا الحجم دون استخدامه ضد الفلسطينيين، وقد وجد زنادقة الإعلام بالفعل ضالتهم عندما شارك الرئيس الفلسطيني محمود عباس في المسيرة الكبرى المتعاطفة مع الضحايا في فرنسا بدلا من مناقشة «التصرفات الصبيانية « لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي أحرج نفسه وفرنسا.
استغل الكثير من المعلقين هجوم باريس للتحدث عن حجم الجالية العربية في أوروبا ومزاعم الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في القارة وخاصة في فرنسا وبريطانيا وقاموا بعقد مقارنة لا تخطر على بال أحد وهي، لماذا لا تقبل أوروبا بحل الدولتين لعلاج هذه المشكلة، واحدة اوروبية واخرى إسلامية؟ بينما تطالب إسرائيل بهذا الحل لحل مشكلة الفلسطينيين. قد تبدو هذه التعليقات صادمة للقارئ العربي وبعيدة تماما عن العقل إلا انها ظهرت بكثرة في الصحافة الأمريكية، ولم تكن على شكل فقرات عابرة في مقالة شاملة. كما هاجمت صحف أمريكية مشاركة الرئيس الفلسطيني في مسيرة باريس ووصفته بطريقة غير لائقة بالارهابي بل اتهمت بعض اعضاء الطاقم المرافق له بالقيام بجرائم ارهابية ضد الإسرائيليين.
الملاحظة الثالثة التي يمكن التقاطها من ردود الفعل السياسية والإعلامية الأمريكية على هجوم باريس هي عدم اهتمامها بمعالجة أصل المشكلة من اليمن رغم اعلان تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية مسؤوليته عن تخطيط وتمويل العملية وعلى النقيض من ذلك ظهر اهتمام أكثر بتوسيع الحرب في العراق وسوريا والحصول على مكاسب داخلية مثل اطلاق العنان لاساليب التحقيق وعدم اغلاق معتقل «غوانتانامو» وطرد المهاجرين غير الشرعيين من البلاد.
أما القضية الرابعة التي برزت في التحليلات الجادة كردة فعل على هجوم باريس فقد كانت خطرة للغاية لانها تتحدث عن حرب حضارية وثقافية بين الغرب والعالم الإسلامي حيث وصف محللون أمريكيون الصحيفة الفرنسية الساخرة بانها «الخط الأمامي» للحرب الثقافية الجديدة بل توصلوا إلى ان مفهوم الحرب بشكل عام قد تغــير تماما حيث لم تعد ساحات القتال وقواعد الاشتباك الميدانية صالحة للتعبيرعن الخــطوط الأمــامية للمعركة بعد صعود التطرف الإسلامي واختياره جبهات قتالية في مركز التجارة الدولي وسط منهاتن ومترو الانفاق في لندن ومكاتب الصحف.
«الخطوط الأمامية» كما هو شائع وفق المفهوم الأمريكي هو مصطلح يصف خنادق الجنود التي وقفت في مواجهة الاعداء في الحرب العالمية الأولى أو شواطئ النورماندي في الحرب العالمية الثانية ثم تحول منذ فترة طويلة ليصف المشاركة الأمريكية المسلحة في فيتنام والبوسنه والهرسك والذهاب من الكويت إلى العراق في حرب الخليج الأولى. ولكن الخطوط الأمامية التي يراها الآن الخبراء هي الحرب الثقافية و»تشارلي ايبدو» هي بالطبع حسب المفاهيم الجديدة في خضم الحرب بل انها تقف على «الخطوط الأمامية» .
وقد عبر الرئيس الأمريكي باراك اوباما في اعقاب الهجوم على شارلي ايبدو عن انه على ثقة بان القيم التي يتقاسمها الأمريكان مع الشعب الفرنسي وهي الإيمان بحرية التعبير لا يمكن اسكاتها بواسطة العنف غير المبرر، هذه التصريحات ليست فريدة في الثقافة الغربية فهنالك اندفاع دائم للدفاع عن حرية التعبير في الغرب ولكنها وصلت كما يقول الخبراء إلى حالة حرب مع الجماعات الجهادية مثل تنظيم «الدولة الإسلامية»، وهي حرب بالتاكيد ضد أشخاص لا يرتدون الزي الرسمي ولكنهم قد يحملون جوازات سفر غربية.
يعتقد المحلل كريس سباتولو الذي عمل لفترة طويلة مع الجيش الأمريكي ان الإرهاب ليس ببساطة القتل غير المبرر بل هو الخوف وتقويض القيم ورغم ان شارلي ايبدو لم تكن الأقوى ماديا في هذه المعركة الا انها كانت اقوى تمثيل لنظام القيم الغربية، وقال:»رسائل الجماعات الجهادية في اشرطة الفيديو تشير إلى رغبتهم في نقل المعركة إلى الشواطئ الغربية وهي بالفعل نقلت المعركة من بندقية في وجه بندقية إلى بندقية في وجه القيم».
ولا يجد المحللون الأمريكيون مفارقة بين حرية التعبير والاستفزازية والهجومية التى رسمت صفحات شارلي ايبدو حيث هاجمت الصحيفة المسلمين والمسيحيين والسياسيين بطريقة تفتقر إلى الذوق ولكنهم يعودون إلى الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان المشابه للبند الاول في الدستور الأمريكي والذي يحمي حرية التعبير وهم بذلك ابتعدوا عن النقاش حول ان قوانين حرية التعبير لا تحمي بالفعل الخطاب الهجومي الاستفزازي والمؤذي.
قضية جدية أخرى طرحها المحللون الأمريكيو ن بعد هجمات باريس وتتمثل في تساؤلات حول فعالية العمليات الاستخبارية ضد الجماعات الإرهابية باعتبارها ليست مشكلة فرنسية بل مشكلة لجميع الدول المتحضرة، ويفهم البيت الأبيض وقادة الكونغرس جيدا هذا الأمر حيث تجري التشريعات على قدم وساق من أجل اصلاح وكالة الأمن القومي والاقتراب نحو قواعد أكثر شمولا فيما يتعلق بالأمن السيبراني، وفي دراسة لتفاصيل هجوم باريس، يعلم الجميع ان السلطات الفرنسية قد رصدت الاخوة كواشي منذ عام 2005 بشكل متقطع حيث تم اعتقال الأخ الأصغر في ذلك العام وهو يحاول الذهاب إلى سوريا ولكن التقارير تشير إلى ان السلطات الفرنسية فشلت في المراقبة بشكل كاف وعلى النقيض من ذلك، غرقت وكالة الاستخبارات الفرنسية في بحر من البيانات حد من قدرتها على تمييز التهديد الحقيقي الذي يشكله كواشي.
ويقول المحلل كيدريك لايتون ان التجربة التاريخية لفرنسا في مجال الاستخبارات جعلتها في مقدمة دول العالم في هذا المجال ولكن الحكومة الفرنسية بحاجة إلى إعادة تنظيم الهيكل التنظيمي للمجتمعات المخابراتية وتنسيق أدوارها، وهي المشكلة ذاتها التي تعاني منها الولايات المتحدة من سوء تبادل المعلومات والتنسيق بين الأجهزة الأمنية المختلفة.
وفي نهاية المطاف، يرغب الأمريكيون في جر أوروبا إلى فترة شبيهة بالعصر الأمريكي بعد هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، وحاول الإسرائيليون استغلال المذبحة لصالحهم، ورقص اليمين الأمريكي فرحا، وتحول الهجوم من حرب ضد تنظيم «القاعدة» إلى حرب صريحة ضد «الإسلام الراديكالي» والتعرض للإسلام كديانة، أما المواطن الأمريكي العادي فما زال يعتقد بسذاجة ان القضية تدور حول حرية التعبير.
&