طيب تيزيني

في زيارة إلى تونس تلبية لدعوة وصلتني منذ عقد من السنين من مركز ثقافي هناك لتقديم محاضرة أو محاضرات في جامعة تونس، كان عليّ أن أبدأ بتقديم المحاضرة الأولى في اليوم التالي من وصولي إلى العاصمة التونسية، لكنني فوجئت باعتذار الجامعة عن إلغاء ما جئت من أجله. كان ذلك سبباً لعودتي إلى سوريا بعد يومين من وصولي إلى هناك. وهذا ما جعل أحدهم يحجز لي مكان إقامة في أحد الفنادق. وكان ما كان حين رجعت إلى الوطن الصغير سوريا. ومرة أخرى دُعيت إلى تونس مع مجموعة من الزملاء الباحثين في لبنان لتقديم محاضرة حول المسألة الدينية في الفكر السياسي العربي. وبعد يومين من إقامتنا هناك، جاءني إعلام من وزارة الثقافة التونسية بإلغاء محاضرتي ومحاضرات أخرى. وكان ذلك قد تمّ في سياق دعوتنا إلى منطقة الحمامات السياحية الجميلة، وكان ذلك، حيث لاحظت أن القرارات هناك تتخذ في مواقع المخابرات والأجهزة الأمنية.

واليوم وبعد مرور أربعة أعوام على اشتعال الثورة الخضراء الحمراء، نجدنا أمام حدث قلما حدث مثيل له في العالم العربي، وفي مناطق أخرى من آسيا وأفريقيا ومناطق أخرى. وإذا كان هذا هو الوجه الأول الحاسم في الثورة التونسية، إلا أن وجهها الآخر يتجسد بصيغة ظهرت إرهاصات لها في مجموعة من التحركات السياسية العربية تحت مصطلح «الربيع العربي». حدث ذلك، مثلاً في الثمانينيات وبعدها من القرن المنصرم، وكان في سوريا ومصر وغيرهما، والطريف أن الرئيس السادات في مصر أطلق عليها تسمية «انتفاضة الحرامية»، وبهذا، نكون قد ضبطنا الثورة المذكورة في اثنتين من معالمها الكبرى، هما أنها أولاً ثورة أسقطت ما ضبطته بعبارة «دولة أمنية»، وأخرى بعبارة «الربيع العربي».

وقد أوضحتُ العبارة الأولى بالمقارنة مع «الدولة البوليسية»، حيث تجسد هذه الأخيرة السلطة القمعية التي تتجه نحو جهاز القضاء وغيره من أهداف خصومها المباشرين في الحقول كلها، وخصوصاً منها السياسي، في حين أن «الدولة الأمنية» تتحد في كونها تسعى إلى تدمير المجتمع القائم برمته بجعله، جماعات وأفراداً وكلا مداناً تحت الطلب، بعد أن يكون هؤلاء قد أدخلوا في حقل «الفاسدين المفسدين تحت الطلب»، أي في الأحوال التي تقتضي «إدانة هؤلاء وسحقهم».

كوَّنتُ معلوماتي عن تونس بن علي عبر جهود مباشرة وعبر الإعلام والأصدقاء وعبر مراكز بحوث، فكان أن اكتشفت طابعها بمثابتها «دولة أمنية".
&