كمال بالهادي

لو عدنا إلى قراءة المشهد العربي منذ أكثر من ثلاثة عقود مضت، سنجد أنّ مشاهد العنف والدمار هي المسيطرة، وأن الأموال التي أنفقت في الصّراعات، كفيلة بأن تجعل من الدول العربية دولاً متقدمة ومضاهية للدول التي استطاعت أن تشق طريقها نحو أرقى درجات التطور.

غير أن هناك عناصر وعوامل معطّلة، ولا يمكن القول إنها غير مؤثرة.

انطلقت الأزمات مع ظهور حركات الإسلام السياسي، ويمكن تصنيف هذه الحركات إلى صنفين.

الأولى هي حركات على رأسها حركة الإخوان المسلمين، والثانية هي الحركات التي تقودها حركة الإمام الخميني، التي ظهرت في إيران وعملت على تصدير فكرها إلى الدول العربية.

عندما قاد الضباط الأحرار في مصر ثورتهم ضد الملك فاروق، وبدأوا بتنفيذ مشاريعهم الإصلاحية والثورية التي كانت تهدف إلى بناء مصر القوية والحديثة، كانت حركة الإخوان المسلمين تسير في التيار المعاكس وتعمل على عرقلة النهضة المصرية في ذلك الوقت.

والحقيقة أن حركة الإخوان نجحت في أن تلعب دور المعرقل، وفي أن تخلق أزمات جعلت النظام المصري وقتذاك، ينشغل عن القضايا الكبرى والتحديات الخارجية بمجابهة ذلك «العدوّ» الداخلي، الذي لا يقلّ شراسة عن العدو الخارجي.

وفي عقد التسعينات عاشت الجزائر سنوات الجمر، عندما خيّرت الجماعات الإسلامية المتطرفة التي تتبنى فكر الإخوان المسلمين وبقيادة «الفيس» أن تواجه الدولة والمجتمع بحرب مدمرة، ذهب ضحيتها نحو 200 ألف قتيل، وجعلت الجزائر تخسر عقداً كاملاً وموارد مالية لا تحصى في مجابهة ما بات يعرف في ما بعد بالإرهاب.

لقد تأخرت الجزائر كثيراً، وتضررت من تلك الحرب، في وقت كانت فيه دول أخرى من أمريكا الجنوبية ومن آسيا ومن إفريقيا تشق طريقها نحو التقدم والازدهار.

لو أحصينا ما خسرته الجزائر بسبب تلك الحركة الإسلامية لوجدنا أنها خسرت عقوداً من التنمية وعقوداً من البناء.

فلفائدة من وقع ذلك؟ الحقيقة هي أنّ الشعب الجزائري هو الضحيّة ولا أحد خاسر، أكثر من ذلك الشعب الذي دفع عشرات آلاف الضحايا، في حرب جنونية.

الأمثلة على ذلك كثيرة، إذ إنه لم تنج دولة عربية من تلك الأزمات التي تقودها تلك الحركات التي تتخذ من الإسلام غطاء لتنفيذ مشاريعها السياسية.

وتزداد الأزمات تعقيداً بظهور أطياف جديدة من هذه الحركات، أكثر تطرفاً وأكثر رغبة في تدمير ما تم بناؤه، وأكثر تشدداً في الانغلاق والانفصال على العالم الحديث، وما ظهور القاعدة و"الدواعش"، وغيرها من تلك الحركات إلا دلالة على استمرار هذه الأزمات المرتبطة بما يعرف بالإسلام السياسي.

ولكن المشكلة لا تتوقف عند هذا الحدّ، فهناك نوع آخر من الإسلام السياسي مثّل تحدّياً خطراً للأمة العربية يتمثل في الحركات الإسلامية المرتبطة بأفكار الثورة الإسلامية في إيران.

فمنذ وصول هذه الحركة إلى السلطة في عام 1979، مثلت تحدياً أمنياً وسياسياً، ومثلت عنصر أزمة في علاقة مع الدول العربية، فاشتعلت الأزمات مع العراق في حرب مدمّرة، دامت ثماني سنوات، وتأزمت العلاقة مع دول الخليج لجملة من الأسباب، أهمها استمرار احتلال الجزر الإماراتية منذ العام 1971، والتدخل في الشؤون المباشرة لدول الخليج.

وأخيراً صار التدخل أكثر حدة من خلال دعم الحركات المتمردة على غرار حركة الحوثي في اليمن.

الثورة الإسلامية الإيرانية، وهي شق ممّا يعرف ب«الإسلام السياسي»، تعتبر عنصر أزمة وتحدياً تاريخياً للعرب، فهي الآن تضع يدها بالكامل على دولة عربية في حجم العراق، وهي توسع نفوذها لتهيمن على سوريا، ومنها على لبنان.

أليس في كل هذه الأمثلة السابقة، دلائل على أن الأزمات التي تمنع العرب من أي تقدم إلى الأمام، تكمن في هذا الفكر الذي ينتسب للإسلام، بكل مذاهبه؟&

إن الأزمات في الوطن العربي لن تنتهي، ما لم تتمّ دراسة هذا الفكر دراسة معمّقة.

وما لم يقع التعامل مع فكر الإسلام السياسي بأكثر جدية.

هذا الفكر يخلق الأزمات ويمنع التقدّم، ويفصل الأمة العربية عن ركب الحضارة الإنسانية التي تسير دوماً إلى الأمام.

إنّ الحلول السياسية أو العسكرية التي يتم اتخاذها من حين لآخر لإطفاء نيران أزمات، هي محاولات يائسة، لأنها ما إن تنجح في إطفاء حريق هنا إلاّ ونشب حريق هذه الأفكار في مكان آخر. وعليه فإن المطروح الآن، وبكل جدية، هو إعطاء الأولوية لما يمكن أن نسميه «المقاومة الفكرية» والثقافية لهذه الأزمات، علينا أن نحسم هذه المسألة من الجذور.

فإما الرهان على جوهر الإسلام، وهو الرهان على التغيير المستمر والعلم والعمل، أو التمسك بأفكار واجتهادات لبعض الأشخاص، وبناء حركات سياسية تشد إلى الوراء بناء على أفكار أولئك الأشخاص الذين لا يمتلكون أدوات التحليل المعرفي، ولا يعون وسائل التقدم والتطور، وليس أفضل من غيرهم من النخب المتعلمة لقيادة عملية التغيير.

إن الإسلام في جوهره، يؤكّد على العلم والعمل، فهما وسيلتا التغيير الحضاري اللتين أدركتهما الأمم الأخرى.

وغير ذلك، فهي أفكار خاطئة، تنتج حلولاً خاطئة بالضرورة.

وتوالي الأزمات في هذه الأمة، هو نتيجة طبيعية، للعيش طويلاً في أتون الأفكار الخاطئة.

صحيح أنّ عنصر التحدي الخارجي، يلعب دوراً رئيسياً في تعطيل التقدّم العربي، وصحيح أن هذا التحدي الخارجي يتشابك مع العنصر الداخلي ليشعل فتيل الأزمات ويجعلها عصية على الحلّ، غير أنّ المشكلة الرئيسية تكمن في طرق تفكيرنا التي تجاوزها الزمن وصارت غير صالحة للاستعمال، في هذا العصر.