عبدالله العوضي

ما حدث في باريس هو امتداد لما يحدث في سوريا والعراق واليمن ولبنان وغيرها من البقاع الساخنة، لأن «داعش» وأمثاله من التنظيمات والأحزاب والحركات والتيارات الفكرية المنجرفة نحو هاوية الإرهاب، لا تعيش في أنوار باريس ولا أنوار أي حضارة أخرى على وجه البسيطة.

فهذا الفكر المخدر والمنزوع منه أي مشاعر لا يعترف بالإنسان فضلاً عن إنسانيته، لأن أصحاب هذا الفكر المأزوم «إِنْ هُمْ إِلا كالأنعامِ بلْ هُم أَضَلُّ سَبِيلاً» لماذا، لأن الأنعام تشعر وتتحسس الكثير من حاجات أفرادها الضرورية والفطرية.

أما هؤلاء فلا حس ولا ضمير ولا أخلاق ولا رائحة للآدمية تفوح من أفعالهم التي يراد من خلالها تشويه سيرة الإسلام السمح وقد وجدت هذه الشرذمة الضالة عن الطريق السليم، والمضلة لكل عقل سليم، في التعامل مع وحشية الإرهاب في أفظع صورها وسيلة رائجة لقتل البشرية وسحق الحضارة التي تنير للإنسان دروبه في التقدم والتطور نحو مستقبل آمن من شر هؤلاء الأشرار بالفطرة.

لقد اعترفت شرذمة «داعش» المجرمة بالمسؤولية عن الهجمات الإرهابية الست في أرقى بقاع العالم حرية وعدلاً ومساواة واحتراماً لأسمى معاني الإنسانية التي تسع العوالم كلها والإنسان جزء رئيسي منها.

في القرن التاسع عشر كتب العلامة رفاعة الطهطاوي كتابه الذي ذهب مضرباً للأمثال عندما نبحث عن شيء نقرؤه عن الحضارة الغربية في أبهى صورها، حيث شعاع التنوير الساطع من أرض باريس النور واليقين، فهي التي أهدت أميركا تمثال الحرية ليكون نبراساً إلى العالم الحر حتى أصبحت أميركا قبلة وحلماً للملايين من البشر حول العالم أجمع والعرب والمسلمين جزء منهم.

ونعود إلى مؤلف الطهطاوي «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب.

ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلاشك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرفاً على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم، وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألّف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه وتدوينه وترجمته خمس سنوات، فأخرج لنا عملاً بديعاً، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة الثرية من حياة الأمة العربية والغربية.

ترى ماذا قدم أصحاب الفكر «الداعشي» بمختلف ألوانهم وأسمائهم إلى هذا العالم الذي هو بحاجة إلى عشرات من نوع الطهطاوي وأمثاله كمحمد عبده وجمال الدين الأفغاني والكواكبي ومالك بن نبي الجزائري الذين أقروا في مؤلفاتهم الثمينة، ومازالت كذلك، بأنهم رأوا الإسلام في الغرب ولم يروا مسلمين، حتى تحول الإسلام في الشرق إلى جسد خالٍ من الإسلام الذي رأوه في الغرب من خلال تجوالهم في ذلك الزمن الجميل.

فعندما انتهى دور هؤلاء في خدمة البشرية، جاء الدور على «داعش» ليحاول إيهام الغرب أولاً وللشرق ثانياً بأنهم هم «الإسلام» وغيرهم من «الأنعام» التي تباح دماؤها بالطريقة التي ذهب فيها أكثر من 130 بريئاً ضحية فكر وحشي «داعشي» لا يملك في ثناياه إلا الطيش.

وهكذا يساهم هذا الفكر المنحرف في طرد المسلمين الذين آوتهم أوروبا بقوانينها الراقية التي تقطر إنسانية ورحمة، إلى المجهول من جديد بعد أن استقر ملايين العرب والمسلمين في تلك البلدان الحضارية لعشرات السنين، وهم المتضرر الأكبر من هذا التنظيم الإرهابي الذي يتخفى في ثوب «الإسلام» ويقوم بتزوير قيمه وتزييف مبادئه على رؤوس الأشهاد ويصر منحرفوه على إهلاك الحرث والنسل حتى يسيطروا على «الخلافة» الموهومة وحدهم ولو على أشلاء أهل التنوير الفعلي في باريس عاصمة التنوير الإنساني في العالم أجمع.

هلا يفيق العالم كله ويقف وقفة رجل واحد لقلع عيون الإرهاب والإرهابيين وخلع جذورهم من كل المجتمعات حتى تعود أنوار باريس ونيويورك والقاهرة ودمشق وبيروت وبغداد إلى الحياة من جديد وتدفن «الداعشيين» في كهوفهم وتعمي أبصارهم بأنوار الحضارة التي تقضي عليهم واحداً تلو الآخر فهذا هو واجب الحال ولا محال.
&