غسان العزي

كان الكسندر لوكاشنكو النائب الوحيد في البرلمان البيلاروسي الذي صوت ضد انفصال بلاده عن الاتحاد السوفييتي غداة انهيار الكتلة الشرقية.

وبعد أن غدا رئيساً منتخباً لبيلاروسيا حافظ على أفضل العلاقات مع موسكو، وبنى نظاماً سياسياً قائماً على الاستبداد وعبادة الحاكم. وقد فاخر بأنه تمكن من الحفاظ على الاستقرار في عملية انتقالية سلسة من الشيوعية إلى الليبرالية، على عكس روسيا التي تخبطت في حبائل هذا الانتقال.

حاول لوكاشنكو إقامة توازن في سياساته الخارجية ما بين الغرب وروسيا مع الاقتراب أكثر من هذه الأخيرة لأنها تتركه مطلق اليد في سياساته الداخلية على عكس الغرب الذي يستخدم الديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها كذرائع لتدخله في شؤون الآخرين. الأزمة الأوكرانية أضفت المزيد من الأهمية الجيوبوليتيكية لبيلاروسيا سواء بالنسبة لروسيا أو الغرب.

الاتحاد الأوروبي يستخدم بيلاروسيا لتهريب المنتجات الغذائية الغربية إلى روسيا والتي تقاطعها هذه الأخيرة كرد على العقوبات الاقتصادية الغربية ضدها. وفي هذا المجال فما يفعله الرئيس البيلاروسي يضيف إلى الأدلة على أن علاقته بموسكو ليست علاقة تحالف وقيم مشتركة بقدر ما هي علاقة مصالح متغيرة.

وهذا يعني أنه قد ينحاز إلى الغرب فيما لو قدم له «عروضاً» مغرية لاسيما في المجال الاقتصادي. وقد أعلن في الشهر الماضي أن انسحابه من الاتحاد الأوراسي احتمال وارد، وهو اتحاد ما يزال طري العود. لكن بوتين، من جهته، مطمئن للأوراق التي يملكها في وجه بيلاروسيا (نفط وغاز وجمارك وضغوط سياسية...) إذا ما فكرت بالخروج من الفلك الروسي.

أما الاتحاد الأوروبي فيحاول إغراء الديكتاتور البيلاروسي الذي ظن أن زيارة هولاند وميركل له أدخلته في «نادي النخبة» وأن مفاوضات مينسك حول الأزمة الأوكرانية أدخلت بلاده في حظيرة الدول المهمة في الساحة الدولية. من ناحية أخرى فإن البابا فرنسيس الذي لعب دوراً ناجحاً في التقارب بين واشنطن وهافانا قد يلعب مثل هذا الدور بين أوروبا وبيلاروسيا، كما أعلنت مصادر الفاتيكان مؤخراً. فالبولونيون الكاثوليك، الذين يشكلون أقلية فاعلة سياسياً في بيلاروسيا، يتمسكون بانتمائهم الديني ويتطلعون إلى دعم الفاتيكان لترميم وتمتين الجسور بين بلادهم وأوروبا. ويتطلع لوكاشنكو بشغف لانضمام واشنطن إلى مفاوضات مينسك (لم تشترك فيها حتى الآن) لتكون فرصة لتطبيع علاقاته معها ومع الدفق الكبير من الدبلوماسيين الأمميين ومن يرافقهم من المنظمات غير الحكومية والمؤسسات الدولية التي ستحاول تكرار ما سبق وفعلته في أوكرانيا ونجحت فيه: إخراجها من الفلك الروسي. لكن مشكلته هي أنه إذا بعث بإشارات تقارب واضحة مع واشنطن من دون أن تبادله الأخيرة بالمثل وتقدم له مكافآت ملموسة، فإنه قد يخاطر عندئذ بموقعه في الاتحادين الجمركي والأوراسي، في وقت تقرع فيه طبول حرب باردة جديدة تفرض عليه الاختيار العلني الواضح ما بين الغرب وروسيا. في بداية الشهر الماضي قال وزير الخارجية البيلاروسي عن موضوع تطبيع العلاقات مع الاتحاد الأوروبي إنه يسجل المزيد من التقدم منذ عام.

وتعتقد مينسك بأن انضمامها إلى أوروبا يحمل لها الكثير من الفوائد. لكن هناك من نصح الرئيس لوكاشنكو بأنه ليس من اللائق تطبيع علاقاته بشكل كامل مع بروكسل في وقت تنخرط فيه في حرب باردة ضد حليفه الروسي والذي لن يسكت على ذلك، ناهيك عن أن المكاسب على المدى القريب قد تنقلب إلى خسائر على المدى الأبعد ؛ لأن حلف الأطلسي هو الذي سيحقق مكسباً استراتيجياً مهماً، لكنه لا يملك ما يكافئ به مينسك نظراً للأزمة الاقتصادية التي تضرب أوروبا. وبالمقارنة مع دول أوروبية شرقية أخرى فإن بيلاروسيا تمتلك اقتصاداً مستقراً يتطلع الأوروبيون للشراكة معه.

لكن الرئيس لوكاشنكو لا يهمه فقط ازدهار بلاده بقدر ما يغريه أن يغدو هو شخصياً زعيماً مرموقاً في الخارج، والأوروبيون يلعبون على هذه «الأنا» منذ بعض الوقت رغم أنهم يصفون بيلاروسيا بأنها الديكتاتورية الأخيرة المتبقية في أوروبا.

يفاخر لوكاشنكو بأنه يحظى بشعبية في بلاده جعلته يفوز في كل الانتخابات الرئاسية منذ تسعينيات القرن المنصرم. لكنه يعرف أنه ليس بمنأى عن ثورة ملونة، بمناسبة الانتخابات الرئاسية في العام المقبل، كتلك التي حصلت في كييف منذ عامين. وهو إن لم يرمِ نفسه في أحضان الغرب يخشى من انفجار مفاجئ لمعارك شوارع في وسط مينسك يتسلل مقاتلوها من أوكرانيا وبولونيا. وإن فعل، أي رمى نفسه في أحضان الغرب، فهذا الأخير قد يسعى لاستخدامه كأداة لتحقيق أهداف ضد روسيا، كما حصل في أوكرانيا. العامل السايكولوجي مهم في تعاطي أوروبا مع لوكاشنكو.

هذا الأخير كان يعتبر نفسه أهم من الرئيس الروسي يلتسين بل حلم أنه زعيم على كل منطقة الجمهوريات السوفييتية السابقة بعد انهيار جدار برلين. لكن وصول فلاديمير بوتين إلى الكرملين، في عام 2000، أيقظه من هذا الحلم.

وهذه الحالة النفسية حيال الجيران الأقوياء تساهم في شرح مواقفه التي تبدو متخبطة وتفتقر إلى العقلانية، الأمر الذي يجعله محل تجاذب بين روسيا وأوروبا، والطرفان يريدانه تابعاً ولا يثقان به كحليف.