&عبد الملك بن أحمد آل الشيخ

تحاول مؤسسات الدولة الرسمية في معظم دول العالم الثالث، تطبيق أنظمة ومعايير إدارية شبيهة بتلك المعايير المطبقة في الدول المتقدمة. والمتفحص لهذه المؤسسات، يجد أنها لا تعمل كما هو مخطط لها. إن هذه المؤسسات تقوم بوظائف اجتماعية وسياسية غير معلنة في أهدافها الرسمية، وقد نجد لهذا تفسيرًا إذا لاحظنا أن الأنظمة الإدارية الجديدة حلت محل أنظمة وأعراف وممارسات إدارية سائدة، وقد تعمل معًا رغم تناقضها، وهذا ما يسمى بظاهرة (عدم التجانس)، وهو أول الملامح المميزة للبيئة الإدارية في دول العالم الثالث.


ووفقًا للنموذج البيروقراطي المثالي، فإن المكتب الإداري (أو الإدارة الحكومية) ليست له إلا وظيفة واحدة، هي تطبيق الأنظمة، ويتم التنظيم والتوظيف، وعلاج مشكلات العمل والدوام، والترقيات وقياس الأداء، وفق معايير ومقاييس إدارية بحتة ومحايدة، ولكن هذه الظروف غير متوافرة في بيئة دول العالم الثالث. وهذا الحال يؤدي أيضًا إلى ملمح آخر من ملامح الإدارة في دول العالم الثالث وهو (التداخل)، حيث تتداخل المعايير، والممارسات والاتجاهات الإدارية الحديثة، مع الاعتبارات السياسية والاجتماعية والفكرية، السائدة في مجتمعات هذه الدول.


وهذا التداخل يجعل الهياكل الإدارية غير متخصصة، وتؤدي أكثر من وظيفة، لأنها تتدخل في عمل الهياكل الإدارية الأخرى، كما يجعل الأخرى تتدخل في عملها، وإذا حاولت بعض القيادات الإدارية رفع أداء مؤسساتها، وفق معايير إدارية حديثة، فإنها تجد نفسها أمام كم هائل من المعوقات، لأن المشكلة لا تكمن في المعايير الإدارية، ولكنها تكمن في التأثر بتداخل الاعتبارات الإدارية مع تلك الاعتبارات المذكورة.


ومما يعزز من هذه المعوقات، ويرسخها لدى العاملين في تلك المؤسسات، وفي المجتمع أيضًا، تأثيرها السلبي على بعض تلك القيادات الإدارية، خاصة عندما تقحم هذه القيادات نفسها ومؤسساتها، في ذلك الاصطفاف الاجتماعي أو السياسي، وتكون طرفًا في تلك الجولات والصولات الفكرية، التي تدور رحاها بين أطياف المجتمع، مما يصعب مهمة هذه القيادات وحياديتها، في البحث عن الحلول المناسبة للمعوقات الإدارية التي تواجهها مؤسساتها.
لذا نجد أن تلك القيادات تكتفي بمعالجة الجوانب التنظيمية الرسمية فقط، حتى وإن كانت لن تغير من الممارسات السلوكية للواقع. فتخرج هذه الجوانب التنظيمية الرسمية (شكلية). وهذا هو الملمح الثالث من الملامح الرئيسية في البيئة الإدارية في دول العالم الثالث.


فإذا كانت التنمية الإدارية في الدول المتقدمة تتم وفقًا لمعايير إدارية نموذجية (تطابق المعايير مع الممارسات)، فإن الوضع مختلف في دول العالم الثالث، حيث الفرق الشاسع بين النموذج الإداري الشكلي (هيكليًا ووظيفيًا)، والواقع الإداري، الذي يتسم بعدم التجانس والشكلية والتداخل. وينتج عن ذلك صراع يسهم في إبطاء عملية الإصلاح والتنمية، لعدم قدرة بعض القيادات الإدارية على القيام بدورها المسؤول، المناط بها لتنفيذ سياسات الدولة، فتكتفي بوضع خطة لتطوير الهياكل والوظائف الإدارية، مع العلم بأنها على الورق فقط، لا تستطيع فعل أكثر من ذلك. من هنا تبرز أهمية تدخل القيادات السياسية في هذه الدول وبإرادتها السياسية القوية المحايدة للتقليل قدر الإمكان من هذه المعوقات، لدفع عملية التنمية الإدارية قدمًا.


والسعودية ليست استثناءً، فهي إحدى دول العالم الثالث التي تعاني أيضًا من تلك المعوقات، إلا أنه من الملموس منذ تولي الملك سلمان لمقاليد الحكم في السعودية، وجود إرادة سياسية قوية نحو الإصلاح الإداري والاقتصادي لأجهزة الدولة، متوجة بمفهوم جديد لإدارة أجهزة الدولة يتماشى مع المرحلة، ويقرب أداء القطاع الحكومي من أدبيات القطاع الخاص المتمثلة في الإنتاجية واحترام الوقت والإنجاز وسهولة الإجراءات لتحقيق التكامل بين القطاعين، ليتمكنا من تحقيق متطلبات التنمية في انسجام تام وتكاملي يرفع من كفاءة أداء الأجهزة الحكومية بعيدا عن عدم التجانس والشكلية والتداخل، ولتمكين القطاع الخاص من أداء دوره المطلوب، ليكون رافدا قويا للاقتصاد الوطني في تنويعه لمصادر الدخل. وهذا ما يبعث التفاؤل والأمل في تلك الإرادة السياسية.. السعودية الجديدة!
&