مأمون فندي

«هنادي راحت في الوبا»، أي انتهت تماما، و«الوبا» من دون الهمزة عندنا في الصعيد بمصر يعني وباء الكوليرا الذي كان يحصد المئات، بل الآلاف من الأطفال كل عام، فبدلا من أن تعترف الأم بأن هنادي فقدت شرفها أو فرطت فيه مما أدى إلى نهايتها، قالت الأم لابنتها: «هنادي أخذها الوبا»، أي ماتت. «هنادي راحت في الوبا» من أشهر الجمل السينمائية، من فيلم «دعاء الكروان» المأخوذ عن رواية عميد الأدب العربي طه حسين، ولكن ما علاقة ذلك بأن «الراوتر» أهم؟ نظرية هنادي و«الوبا» لا تنسحب على الأفراد فقط، بل على الشعوب والدول كذلك، لكني سأبدأ بالأفراد.


في عالمنا العربي، في كل يوم أو في كل شهر أو كل عام أو عامين يظهر شخص يملأ الدنيا ضجيجا على مستوى الشلة الصغيرة، أو المجلس أو الوطن، ثم فجأة يختفي أو «يروح في الوبا». السبب في ذلك هو أننا كأفراد لا نتمتع بالاستقلال، ولا نستمد قوتنا من أنفسنا، بل من خلال توصيل «الفيشة» الخاصة بنا في كهرباء تيار أمير أو رئيس أو وزير وصاحب مال أو رئيس حزب أو زعيم، ويعتمد تألقنا وظهورنا على استمرار بقاء «الفيشة» الخاصة بكل منا متصلة بمصدر التيار، وما إن يسحب الأمير أو الرئيس أو الوزير «الفيشة» وتنقطع الحرارة فجأة حتى تسأل عن فلان، الذي كان يجلس إلى جوارك وهو «ملعلع» من شدة التيار الكهربائي وقوة الوصل والتوصيلة، فتهتز الرؤوس من حولك ولا إجابة. تهتز ولا أحد يرد على سؤال أين راح صاحبنا. ومع حالة الصمت المطبق حول مصيره تظهر تدريجيا همهمات على الشفاه تعرف منها أن فلانا «راح في الوبا»، أي انتهى ولم تعد له صلة بالأمير أو الرئيس أو الوزير أو بالأغنياء أو برئيس الحزب. فجأة «أخذه الوبا» كمن يموت في وباء الكوليرا أو الطاعون. وفي تجربتي الحياتية عرفت أناسا كثيرين «راحوا في الوبا» نتيجة الاعتماد المطلق على التوصيلة.


فكيف للنشء أن يتجنب مصير «الوبا»؟ للتخلص من مصير «الوبا» لا بد للفرد أن ينتقل من حالة التوصيل السلكي المباشر عن طريق «الفيشة» إلى حالة اللاسلكي أو الـ«واي فاي». أن يبذل الفرد مجهودا على الأقل إن كان مصرا على التغطية بغيره ليشتري «راوتر». ولا أقصد «الراوتر» بحالته الفيزيائية، ولكن ما يعادله من عمل مستقل يسمح له بأن يكون مصدر احترام الآخرين، ليمنحوه كلمة سر أو «باسوورد» ليكون ضمن تغطية أوسع تشمل آخرين، وليس توصيلة مباشرة (one on one). توصيلة مواطنة عامة تجعل الفرد يتمتع بالاستقلال وفي الوقت ذاته يحصد مزايا التغطية.


هنادي راحت في «الوبا» في لحظة ضعف وفجوة بين الممكن وضغط حاجات الدنيا والتطلعات، مقابل الاستعجال على حصول ما يريده الفرد. الفجوة بين التطلعات والإمكانات تأخذ الفرد مباشرة إلى عالم «الوبا». وأحيانا لا تأخذ الأفراد بل تأخذ دولا وشعوبا بأكملها.


في كتابه الكلاسيكي عن الثورات كتب أستاذنا تيد روبرت جر (Ted Robert Gurr) كتابا بعنوان «لماذا يتمرد الناس؟» (?Why Men Rebel)، استند فيه إلى نظرية الفجوة بين توقعات الأفراد من النظام، وما يحصلون عليه فعليا من نفع، وقال إنه كلما زادت الفجوة بين التوقعات وما يحصل عليه الأفراد تحدث الثورات. هنا لا تذهب هنادي في «الوبا»، بل تذهب الدولة والنظام برمته في «الوبا».


آفة «الوبا» تمتد إلى العلاقات الدولية التي تعتمد فيها الدولة بالكامل على دولة أخرى أهم وأكبر، ومتى ما تغيرت الظروف راحت الدول الصغيرة في «الوبا». حدث ذلك للدول الصغيرة التي اعتمدت بشكل كامل على الاتحاد السوفياتي السابق، الذي ما أن تفكك حتى راحت الدول الصغيرة من بولندا إلى تشيكوسلوفاكيا إلى معظم دول أوروبا الشرقية في «الوبا».


بالنسبة للأفراد والدول والشعوب، فإن التوصيلات المباشرة أو «الفيشة» تخلق حالة من الاعتماد على الآخر والتنطع السياسي، متى ما تم سحب «الفيشة» انتهى أفراد ودول وراحوا في «الوبا». لذلك أنصح بـ«الراوتر» أو التغطية ضمن نظام واسع للـ«واي فاي» المساوي لفكرة القبول بالمواطنة أو الاعتماد المتبادل، وهذه نصيحة لا تخص الأفراد فقط بل الدول أيضًا، حتى لا نذهب في «الوبا» سواء أكان «الوبا» ربيعا كاذبا، أو إضرابات ناتجة عن الفجوة بين الطموحات والتوقعات مقابل ما نحصل عليه. «الراوتر» هو الحل.
Tweet
&