محمد الصياد
&
كان للحضور النسائي الكبير في مؤتمر الأطراف ال21 الذي عقد في باريس خلال الفترة من 30 نوفمبر/تشرين الثاني إلى 12 ديسمبر/كانون الأول 2015، دور مميز ومقرر في الكثير من القضايا الجوهرية التي شكلت نقاط الخلاف الرئيسية في المفاوضات بين كتلة الدول النامية وكتلة الدول المتقدمة. ولعلي أبدأ بالأداء المميز للعمل الرائع الذي أدته في جولات المفاوضات، إحدى الزميلات الشابات المتميزات في وفد المملكة العربية السعودية التي كانت شعلة نشاط على مسارات التفاوض، لاسيما مسار التفاوض الرئيسي «الفريق العامل المخصص والمعني بمنهاج ديربان للعمل المعزز» الذي أنشئ في مؤتمر الأطراف ال 17 الذي عقد في مدينة ديربان بجنوب إفريقيا خلال الفترة من 28 نوفمبر/تشرين الثاني إلى 9 ديسمبر/كانون الأول 2011، والذي كُلِّف آنذاك بموجب القرار رقم 1/CP.17 بإعداد مسودة اتفاق جديد بحلول عام 2015 ليحل محل بروتوكول كيوتو، إضافة إلى مساهمتها الموفقة في مسار التمويل ممثلة لمصالح المجموعة العربية، وكذلك عضوة الوفد السوداني التي مثلت المجموعة العربية في مسار نقل التكنولوجيا.
&
بيد أن الأداء المميز والرائع الذي خطف الأضواء كان للسفيرة الجنوب إفريقية نوزيبهو ماكاتو ديسكو التي ترأست مجموعة ال (77 + الصين) في مفاوضات مؤتمر باريس. لقد عرفت هذه المرأة كيف توظف خبراتها الواسعة، أولاً في إدارة شؤون المفاوضات الخاصة بالكتلة الأضخم والأوسع تمثيلاً، سواء على مستوى الكتلة نفسها من خلال الاجتماعات التنسيقية العديدة التي تعقدها لتدارس أي تطور أو مستجد أو نص مادة أو فقرة في الاتفاقية الجديدة والقرارات المرفقة بها، أو على مستوى كافة أطراف التفاوض في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ، وثانياً في تمثيل عكس مصالح الكتلة بثبات وروية في كافة مستويات ومسارات التفاوض الثنائية أو المتعددة الأطراف، وذلك منذ اليوم الأول حتى اليوم الأخير من المفاوضات. علماً بأن مجموعة ال (77 + الصين) التي كان تعدادها عند إنشائها في الجزائر في عام 1964 للدفاع عن المصالح الجماعية للدول النامية وخوض المفاوضات ككتلة واحدة في كافة المحافل الدولية، تضم اليوم 134 دولة نامية من بينها دول عملاقة مثل الصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا والأرجنتين، ولها تمثيل قوي في الأمم المتحدة وكافة منظماتها المتخصصة. وقد ترأست جنوب إفريقيا المجموعة في عام 2015، وتولت القيام بهذه المهمة سفيرتها المفوهة والمحنكة نوزيبهو ديسكو التي تزكيها سيرتها الذاتية، والتي من أبرز خطوطها العمل السري في صفوف منظمة المؤتمر الوطني الإفريقي بزعامة الراحل الكبير نيلسون مانديلا إبان حكم الأبارتيد في جنوب إفريقيا، وترؤسها اللجنة الإقليمية السياسية لمنظمة المؤتمر الإفريقي في بريطانيا خلال الفترة من 1988 إلى 1991، عملت خلالها أيضاً عضواً فاعلاً في العديد من المنظمات والوكالات الأوروبية المتخصصة لإغاثة ومساعدة المرأة في القارة الإفريقية، وتقلدت عدة مناصب ممثلة لبلادها في بريطانيا حيث تحمل شهادة من أكسفورد في الفلسفة والاقتصاد، ورئيسة البعثة الدبلوماسية لجنوب إفريقيا في بريطانيا وإيرلندا، والعمل مع نائب الرئيس الجنوب إفريقي ثابو أمبيكي، والعمل كسفيرة مفوضة فوق العادة لبلادها في سلوفاكيا وممثلة لبلادها في منظمات الأمم المتحدة في فيينا بما فيها الوكالة الدولية للطاقة الذرية. بل إن الفضل يعود إليها في كيفية قيادة هذا الطيف الواسع من مصالح الدول النامية، غير المتجانسة أحياناً، والحفاظ على وحدتها طوال أيام انعقاد المؤتمر، وهو ما أدى إلى نجاح الدول النامية في الخروج بأفضل نصوص لمواد اتفاق باريس لتغير المناخ والقرارات الملحقة به.
&
وجه نسائي آخر مميز بصوته القوي وتدخلاته البارعة والجريئة سواء في انتقاد خلفيات نصوص مسودة فقرات ومواد الاتفاق وقرارته الملحقة، أو في اقتراح بدائلها، هو صوت السفيرة الفنزويلية كلوديا ساليرمو كالديرا، التي يهابها ممثلو أطراف التفاوض الأوروبيين والأمريكيين الذائدين باستمرار وبتصلب معتاد عن مصالح كبريات الدول الرأسمالية المتقدمة. هي لا تعبر في مداخلاتها وصولاتها التفاوضية عن مصالح بلادها فقط أو عن مجموعة تفاوضية أمريكية لاتينية (من بين العدد غير القليل من الائتلافات التفاوضية)، وإنما عن مصالح عموم الدول النامية التي سيقع عليها عبء ليس فقط الآثار الوخيمة لارتفاع درجة الحرارة بواقع ثلاث درجات بنهاية القرن مقارنة بمستواها في عصر ما قبل الصناعة، وإنما أيضاً عبء النتائج الوخيمة لتدابير الاستجابة (أي الإجراءات التي ستتخذها الدول للحد من الانبعاثات). ولكونها صوتاً بالغ التأثير يحسب له حساب داخل أروقة المفاوضات في صفوف كبرى الكتل التفاوضية (مجموعة ال 77 + الصين)، فقد اختارها رئيس المؤتمر وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس لتكون وسيطاً مسهلاً (Facilitatior) في مجموعة صغيرة من الخبراء لصياغة ديباجة الاتفاقية (Preamble)، تحوطاً لتجنب أي اعتراض من قبلها عندما تحين لحظة عرض مسودة الاتفاق للإقرار (Adoption) في الجلسة الختامية المفتوحة للمؤتمر. وقد فطنت السفيرة الفنزويلية لهذا التدبير وقالت مازحة في الاجتماع التنسيقي الأخير لمجموعة 77+الصين، «أعلم ما كانوا يخشونه، وقد حولت هذا التدبير إلى «امتياز» في صياغة ديباجة متوافقة مع توجهات كتلتنا» (تقصد مجموعة 77+الصين). وكانت محقة فيما ذهبت إليه، من حيث مقارنة ديباجة المسودة الأولى للاتفاق مع المسودة النهائية المتوازنة. وقد كان لها موقف طريف حين ردت بغضب على كلمات التهديد التي وجهها وزير الخارجية الأمريكية جون كيري لكل من الصين والهند على اعتراضاتهما المحقة على الصياغات السيئة لبعض مواد الاتفاقية، حيث وجهت له تقريعاً غير مباشر حين خاطبت رئاسة المؤتمر (لوران فابيوس) قائلة «نحن نكن لك كل الاحترام والتقدير سيدي الرئيس لأنك لم تبارحنا وظللت ساهراً معنا حتى الصباح بحثاً عن صياغات توفيقية للوصول إلى اتفاق متوازن، وليس كما يفعل البعض الذي نام ملء جفنيه ثم جاءنا الآن ليلقي علينا بعض المواعظ غير المقبولة».
&
جدير بالذكر أن السفيرة كلوديا ساليرمو كبيرة وفد فنزويلا لمفاوضات التغير المناخي، من المخضرمات في هذا الحقل، وتفتخر بأن بلادها ورئيسها الراحل هوغو شافيز أسهما في عدم التوصل إلى اتفاق سيئ غير متوازن بالنسبة للدول النامية في مؤتمر الأطراف الخامس عشر الذي عقد في كوبنهاغن عام 2009، وأن ذلك الموقف ومواقف أخرى داعمة، هي التي أدت للتوصل في باريس إلى اتفاق متوازن للدول النامية. وكان البرلمان الفنزويلي قد صادق في شهر مايو/أيار من العام المنصرم، على توصية وزير الخارجية الفنزويلي ديلسي رودريغس بتعيين كلوديا ساليرمو سفيرة مفوضة فوق العادة لبلادها في كل من الاتحاد الأوروبي وبلجيكا.