سمير عطا الله

كانت المدرسة التي أنشأها درويش المقدادي في القدس إحدى أهم المدارس العربية وأكثرها حداثة أوائل القرن الماضي. وارتأى يومها أن أفضل السبل لتعليم تلامذته جغرافيا العالم العربي هي في زيارة أوطانه... مشيًا على الأقدام. وبين أولئك التلامذة كان الدكتور نقولا زيادة، الذي سوف يصبح لاحقًا أستاذ التاريخ في الجامعة الأميركية في لبنان، وأحد أبرز مؤرخي ليبيا وبلدان المغرب. وقد اعتمد زيادة في التعرف إلى نواحي المغرب الطريقة التي علمه إياها أستاذه: ذهب بنفسه إلى هناك، وتنقل وشهد ورأى وكتب.


له أعمال كثيرة في التاريخ والجغرافيا والسير، من أمتعها وأهمها «أفريقيات» الصادر عن دار «رياض الريِّس». والعنوان المختصر لا يغطي سعة المحتوى، لأنه في الحقيقة رحلة مؤرخ ثاقب النظر في أفريقيا العربية، بلاد المغرب والسودان. وتلاحظ أثر الأسلوب المقدادي على الدوام. ففيما هو في جماليات «الجبل الأخضر» في ليبيا يقول «ها أنا في شحات. وقد ذهبت اليوم إلى سوسة في زيارة قصيرة. لقد شعرت وأنا في السيارة، وهي تهبط هذه الطريق الملتوية المعوجة، كأنني أنحدر من جبال كسروان إلى جونية، أو كأنني أنحدر من رام الله إلى الرملة، فلا تختلف الطريق وما حولها عن تينك الطريقين وما حولهما».


وقد تنقل المؤرخ الجوال في سيارات الشحن وسيارات الإسعاف والقطار وكل ما تيسر. وكان ذلك بعد نهايات الحرب العالمية الثانية. فكانت الأرض من حوله مليئة ببقايا القتال من أعتدة وقنابل غير منفجرة. وعندما ذهبت إلى بنغازي عام 1968 كان لا يزال الكثير منها في أطراف المدن الليبية، حيث ما بين شرق البلاد وحدود مصر دارت بعض أشهر المعارك، ومنها «العلمين»، تلك المبارزة الرهيبة بين أربعة من كبار مارشالات بريطانيا ومارشال ألمانيا، رومل، الذي في هزيمته، اعتبره أعداؤه من كبار استراتيجيي الحروب.


جال زيادة في ليبيا وتونس والجزائر والمغرب ما بين الأربعينات والخمسينات. وكنا نتمتع برفقته في تلبية دعوات المغرب في الثمانينات، وقد أصبح هو أيضًا في أوائل ثمانيناته. وكنت أقول لرفاقنا في الرحلة إنه بدل أن يكون معنا دليل عادي، معنا دليل بمرتبة مؤرخ كبير. وقد عاش ناشطًا ومعطاء حتى الثالثة والتسعين من العمر، تلازمه روح الدعابة وشباب النفس. وكنت ألجأ إليه في مشورات كثيرة، فيهددني قائلاً: «لن أجيبك عن السؤال إلا إذا جئت إلى الغداء». فأعتذر بالعمل والمسافات، فيقول «حسنًا. إلى العشاء إذن». وكنت أغبطه على الروح العالية والنظرة إلى الحياة. وفي أسفارنا كان يقول «الناس تشكر الله عندما تفيق، وأنا أشكره تعالى قبل النوم، لأنه القائل بالشكر تدوم النعم. أعطنا اللهم أن نفيق غدًا».
&