إياد أبو شقرا

ماذا سيترك باراك أوباما لخلفه في البيت الأبيض؟
على الأقل وضع الشرق الأوسط لا يبدو مطمئنًا، في هذه اللحظات، مع رفع المجتمع الدولي العقوبات المفروضة على إيران.


عمليًا، المجتمع الدولي أعاد تأهيل إيران، وقرّر تصديق قادتها والوثوق بخطها السياسي، والتغاضي عن كل تجاوزاتها دوليًا وإقليميًا – بل ومحليًا أيضًا – حيث يمارس النظام «الديمقراطية» بطريقته الخاصة. إنه نظام يضم حكومة لا تحكم، ويرأسه «مرشد أعلى» يرشد ويوجّه ويأمر بالتنسيق مع ميليشيا اسمها «الحرس الثوري».


مع هذا، لا يجوز الاستهانة بما فعلته هذه «الحكومة التي لا تحكم». فمنذ انتخاب حسن روحاني رئيسًا لإيران صارت هناك أولويات واقعية تختلف عن جموح مرحلة محمود أحمدي نجاد. وسياسيًا واقتصاديًا وإعلاميا وأمنيًا، صارت «العلاقات العامة» السمة الغالبة على مرحلة روحاني، بموافقة «المرشد» و«الحرس». وبين أبرز نجوم هذه المرحلة وزير الخارجية محمد جواد ظريف و«فريقه» من رجال الدبلوماسية والاستخبارات والتعامل مع «اللوبيات» الخارجية، وبالأخص، في الولايات المتحدة.


ولكن ثمة من يقول، إن هذه النقلة المهمة لم يحققها انتخاب روحاني بل كان انتخابه من «السيناريو» المرسوم لها. ذلك أن مجموعة الناشطين لمصلحة نظام طهران في الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرهما من الدول الغربية النافذة لم تُزرع وتغذّى بعد انتخاب الرئيس الجديد، بل نشط بعضها في دهاليز شراء النفوذ وبناء الصلات المصلحية الوثيقة قبل عقود. ومن ثم، فإن بذور عملية إعادة تأهيل إيران والترحيب بها شريكًا إقليميًا زُرعت منذ زمن غير قصير، حتى خلال فترة العداء اللفظي المرير بين طهران وواشنطن في عهد رونالد ريغان. ويكفي تذكّر صفقة «إيران – كونترا» التي نُسي معها «الشيطان الأكبر» تمامًا.
في هذا السياق يغدو عهد روحاني التطور المطلوب لإحداث تغيير استراتيجي في المشهد الجيو - سياسي في الشرق الأوسط. وفي هذه الحالة فهو لا يختلف كثيرًا عن ظهور تنظيم داعش الذي ولد في ظروف غير مألوفة، متسمًا بتركيبة غامضة وممارسات مشبوهة.


وحقًا ها هي إيران تطرح نفسها عبر روحاني، ووزير خارجيته، للعالم على أنها «شريكة».. ليس في مجال التنمية والاستثمارات المجزية فحسب، بل في مجالي مكافحة الإرهاب والدفاع عن حقوق الإنسان، بما فيها الأقليات، أيضًا. غير أن هذا الادعاء ما كان له أن يمرّ لولا حقيقتان:
- الأولى، الاستثمار الإيراني الدؤوب لأذرعها في الخارج.


- الثانية، فهمها أن عالم السياسة يقوم على المصلحة لا المبادئ وفروسية الخلق.


هاتان الحقيقتان، الموجودتان في صلب تفكير نظام طهران منذ 1979، مكّنتا القيادة البراغماتية الحالية في طهران من الاستفادة من دعم شخصيات مؤثّرة وقريبة من مراكز القرار في الكثير من العواصم العالمية، ومن ثم، إقناع المواطن العادي في أميركا وأوروبا بأنها طرف «مفيد» على عدة أصعدة بعكس خصومه الإقليميين، وأنها «لاعب يعرف أصول اللعبة» حتى وإن كان يتبع أسلوب المزايدة في الإسلام والثورية والعداء للغرب وإسرائيل.
لقد جاء «الربيع العربي» ليكشف حقيقة مهمة لا بد من الاعتراف بها، هي أن عالمنا العربي لم يكن متحسّبًا للتغيير ولا مدركًا أبعاده وثمنه. وحتى هذا اللحظة، على الرغم من كل ما شهدته الأقطار العربية التي مرّ بها ذلك «الربيع»، نجد أن الرأي العام العربي ما زال منقسمًا حول المصير، ومرتبكًا إزاء ما عليه فعله.


هذا الوضع أتاح للقوى الثلاث غير العربية في الشرق الأوسط، أي إسرائيل وإيران وتركيا، أن تظهر كدول فاعلة إقليميًا، ترى «من حقها» الدفاع عمّا تعتبره «مصالحها الحيوية» في ظل التشرذم العربي. وبالنسبة لإسرائيل أطلق يد الليكود وقوى اليمين المتطرّف في إسقاط أي فرصة لتسوية سلمية تحفظ للفلسطينيين حق تقرير المصير. ولكن على مستوى آخر، وصل الاستقطاب المذهبي «السنّي – الشيعي» إلى مرحلة التطهير الديموغرافي وتقسيم الكيانات كما يحصل في مناطق عدة في سوريا ومحافظة ديالى في العراق.


&لئن كان «الخطاب المذهبي» الإيراني المنقول عبر شعارات «تصدير الثورة» وممارستها قد أطلق صافرة البداية لبناء ولاءات مذهبية متطرفة ومسلحة، فإن رد الفعل كان مسألة وقت ليس إلا. وفعلاً، جاء رد الفعل بعدة وجوه، أبرزها: نجاح الأحزاب والقوى الإسلامية المتشدّدة في تعزيز مواقعها حتى في دول عربية وإسلامية علمانية كتونس وتركيا. وبروز جماعات سنّية متشدّدة ردًا على الهيمنة الطائفية السياسية والميليشياوية الشيعية (أو اللاسنّية) في العراق وسوريا ولبنان.


لقد كان تأسيس نظام طهران ميليشيات مذهبية مسلحة خطوة عملية مهمة على صعيد «تصدير الثورة» بعد اصطدامه بـ«حرب الخليج الأولى» (الحرب العراقية – الإيرانية). وأثبتت الأيام أن نموذج حزب الله اللبناني، واختراق الساحة الفلسطينية بدعم منظمات سنّية، واستثمار «مقاومة» إسرائيل كان خير وسيلة لتصدير الثورة؛ ذلك أن إيران لم تنجح بتجييش الشيعة في مناطق كثافتهم فحسب، بل حيّدت أيضًا قطاعًا واسعًا من السنّة، وعزّزت أيضًا حضورها مع استحواذها على قواعد يسارية وقومية «تيتّمت» بعد انهيار الاتحاد السوفياتي و«كامب ديفيد».


ما يحدث اليوم في المنطقة، ما كان ليحدث من دون مناخ دولي مساعد، وبالأخص في الولايات المتحدة. وسياسة واشنطن على الأرض باتت واضحة من دون الحاجة للتوقف طويلاً أمام التصريحات. والبديهي أن المصالح الاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة وكبريات الدول الغربية أسهمت في اتخاذ قرار إعادة تأهيل إيران، لكنها تأتي على حساب كوارث إنسانية وتغييرات ديموغرافية وكيانات فاشلة وأحقاد عرقية ومذهبية باهظة التكلفة.
العواصم الغربية لن تكترث بكل هذا، لأنها قرّرت أن ترى في «داعش» اختصارًا كافيًا لعموم السنّة في المنطقة، وأن تراهن على إيران حليفًا لها في الحرب الكونية على الإرهاب السنّي.. حصرًا.
قد تنجح هذه السياسة على المدى القصير، لكنها محكومة في النهاية بالفشل لأنها أضمن وسيلة لتغذية التطرف والتعصب.


هذا هو الشرق الأوسط الذي سيقذف لاجئيه إلى أوروبا، والذي يعد به باراك أوباما خلفه في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل!
&