شتيوي الغيثي

إحدى مشكلات كثير من المثقفين العرب في أطروحاتهم، هي محاولة التوفيق بين الفكر الحديث والإسلام، حتى لو اختلفت أسس الفكرين

&


قبل حوالى أربعة أيام، كانت هناك محاضرة مثيرة للجدل في نادي المدينة الأدبي، حول نقد ما يسمى بالحداثة، وتحديدا الحداثة الغربية.


ألقاها الأكاديمي التونسي في جامعة طيبة الدكتور: مختار الفجاري بعنوان: "الإنسان في الفكر الحداثي الغربي _قراءة نقدية"، وكان من الواضح أن المحاضر سيعتمد من عنوانه في نقد الحداثة على ما بعد الحداثة، لأنه لا يمكن تجاوز جدليات ما بعد الحداثة، لأنها قوضت أسس الحداثة، وهذا ما أكده المحاضر في محاضرته، إذ فرق بين الحداثة التي هي المرحلة الفكرية التي تمركزت على العقل الغربي، ورفعت الإنسان فوق حجمه الطبيعي، وجعلته سيدا على المخلوقات، بحيث أدى ذلك إلى الدمار والتسلط والتطور والتقنية والتقدم، في حين كانت ما بعد الحداثة هي المرحلة الفكرية الناقدة لذلك التمركز، وطارحة فكرة الاختلاف، والحد من النزعة الإنسانية المتسلطة، واعتمد المحاضر على مشيل فوكو، في نقد الخطاب الحداثي، منطلقا من مقولة فوكو عن موت الإنسان "الموت المعرفي وليس البيولوجي"، وزلزلة موقعه الذي كان عليه في مرحلة الحداثة، كاشفا عن هشاشته، بعد أن أعلن نيتشه موت الإله، معتبرا أن نيتشه هو من أسس فكر الحداثة لأنه ألغى الميتافيزيقا، وأسس للعلمانية الحديثة.


كما تحدث المحاضر عن فكرة مركزية الحداثة على العقل، وتحويله من عقل منتج إلى عقل آلي، مُزيحا العقل الإيماني، لأن الحداثة تقول بأسطورية الدين، لتأتي ما بعد الحداثة _في نظر الفجاري_ كي تعيد الاعتبار إلى الحالة الدينية من جديد، طارحة فكرة الاختلاف، وتفكيك مركزية الحداثة على نفسها، وعلى سردياتها الكبرى، ثم عاد الفجاري ليعدّ أن الحداثة سحقت الإنسان، ولأجل إعادة اعتباره كان لا بد من التفريق بين مفهوم الآدمية والإنسانية.
فالآدمية هي الحالة التي كان عليها آدم في الجنة، أي أن الآدمية هي الحالة الطاهرة من الشوائب، في حين أن الإنسانية هي ما بعد حالة النزول ودخول الخطيئة على البشرية، ولذلك فمهمة الأنبياء في رأيه هي إعادة الإنسانية إلى مرحلة الآدمية، مستشهدا بعدد من الآيات القرآنية التي تربط بين كلمة الإنسان والخطيئة، في حين لا يوجد ذلك الربط لدى الآدمية.


والفجاري في كلامه يحاول أن يعتمد على النظريات الحديثة، وتأصيلها دينيا، كي تكون لنا هويتنا الإسلامية الخاصة التي لا نتبع بها غيرنا، من أجل إعادة الشخصية الإسلامية.


هذا ملخص المحاضرة تقريبا، أو أهم ما قامت عليه، وفي رأيي أن هناك بعض الخلط في الأوراق حول الاعتماد على ما بعد الحداثة في نقد الحداثة الغربية، لأن ما بعد الحداثة ليست حالة نكوصية لما قبل الحداثة، وإنما تجاوزية للحداثة خلال نقد سلطتها المعرفية، فكما كان نقد الميتافيزيقيا الدينية والفلسفية التقليدية من قبل الحداثة، فقد جاءت ما بعد الحداثة لتنتقد ميتافزيقية العقل الحداثي، وليس معنى ذلك العودة إلى الميتافيزيقيا التقليدية بشقيها: الديني أو الفلسفي، وهذي أولى الإشكالات التي يتم تجاهلها من كثير من المثقفين العرب الذين يحاولون الولوج إلى ما بعد الحداثة لنقد الحداثة الغربية.


فهم يتعامون -إما عن قصد أو غير قصد- عن فكرة التجاوز، وليست العودة، كما يفعل المثقف العربي في معرض أطروحاته النقدية، كنوع من أزمة الهوية التي يعانيها. كما أن هناك بعض الأخطاء المنهجية، ولعل أهم تلك الأخطاء هي أنه عدّ أن نيتشه هو مؤسس الحداثة، خلال مقولته بموت الإله، وكثير من المفكرين يعدّون أن مؤسسها هو كانط، وبعضهم قال هيجل، في حين يضعون نيتشه مؤسسا لما بعد الحداثة، ولذلك فكل الأفكار التي جاء بها نقاد ما بعد الحداثة، فإنهم انطلقوا من أرضية نيتشه أكثر من غيره، فكان أباهم الفكري -إذا صح الوصف- ولذلك فمقولة: "موت الإنسان" الفوكوية ليست نقدا لمقولة نيتشه؛ بل تأسيسا عليها والانتقال لما بعدها؛ أي بعد نقد الميتافيزيقيا التقليدية يأتي نقد الميتافيزيقا المعرفية التي اعتمدت عليها النزعة الإنسانية في الحداثة، بحيث تم تفكيك كل أشكال الهيمنة التقليدية والحداثية على حد سواء إلى درجة العدمية أحيانا، ولذلك كثيرا ما وصف نقاد ما بعد الحداثة بالعدمية لنقد المركزيات كافة، خاصة مع دريدا في نقد المركزية، ومن هنا يصعب نقد المركزية الغربية ما لم يتم نقد ما قبلها، أي المركزيات السلطوية التقليدية الدينية القديمة حتى إن فكرة المفكر فيه واللامفكر هي في جانب من جوانبها أحد منتوجات الفكر النقدي للنصوص على اختلافها: دينية كانت أو فلسفية أو أدبية، في نقد ما بعد الحداثة فكل نص يحمل بؤر توتره مما يقوض مقولاته المركزية، وعلى ذلك فكل النصوص تحمل بذرة هدمها وتقويضها لديهم، ولذلك فحينما يتم تجاهل تلك المعطيات من بعض مثقفي أو نقاد العرب، فإنما هو تجاهل يضع المقولات التأسيسية لنقدهم محل نقد كذلك ومحل توتر معرفي وأخطاء منهجية تقلل من شأن الأطروحات الجديدة لديهم.


هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن التأسيس لنقد الحداثة الغربية، خلال ثنائية: الآدمية والإنسانية، هي أقرب إلى الوجودية التي تقول بأسبقية الوجود على الماهية، على اعتبار أن الآدمية هي حالة وجودية أولية قبل تحول الجنس البشري إلى ماهيته الإنسانية، وليس لها صلة بفكرة فوكو حول موت الإنسان، لأن فكرة موت الإنسان المعرفية تبحث في نقد الخطاب المعرفي ذي النزعة الإنسانية في الفكر الحداثي، ولا صلة لها -في تصوري- بمسألة الحالة الآدمية لأنها ضاربة في القدم، أي منذ مرحلة كون البشر على حالتهم الطبيعية قبل تحولهم إلى الحالة الثقافية، حسب فهمي لكلام المحاضر، في حين أن النزعة الإنسانية التي ينتقدها فوكو هي نزعة حداثية قريبة العهد.


إن إحدى مشكلات كثير من المثقفين العرب في أطروحاتهم، هي محاولة التوفيق بين الفكر الحديث والإسلام، حتى لو اختلفت أسس الفكرين.


فالإسلام إيماني التصور، في حين أن ما بعد الحداثة عدمي النزعة، وخلطهما بهذا الشكل هو أقرب إلى محاولة من محاولات الأسلمة للمناهج النقدية الحديثة، كما هي محاولات أسلمة الحداثة من قبل، أو أسلمة الديمقراطية أو غيرها، كنوع من أزمة الهوية عند بعض المثقفين العرب.
&