أحمد يوسف أحمد

في 18 يناير الجاري فاجأ السفير الأميركي في تل أبيب جمهور الحاضرين في المؤتمر السنوي لمؤسسة دراسات الأمن القومي في إسرائيل بانتقادات غير مسبوقة للسياسة الإسرائيلية تجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة. كان السفير قد بدأ محاضرته في المؤتمر بالإعراب عن تضامنه مع من وصفهم بضحايا العمليات الفلسطينية، وحرص على أن يذكر أن ثمة أميركيين بينهم، وأعرب عن قلقه الشديد في هذا الصدد، وعبر عن مواساته للعائلات الثكلى وتمنياته بالشفاء للجرحى، وأعلن تنديد الولايات المتحدة بهذه الهجمات الإرهابية، غير أنه انتقل بعد ذلك إلى توجيه اتهامات لاذعة للسياسة الإسرائيلية في المناطق المحتلة وخاصة سياسة الاستيطان، وأشار إلى أن بلاده قلقة من استمرار أعمال البناء في المستوطنات، وقال إن إسرائيل يتعين عليها أن تتوقف عن هذه الأعمال لأن الأمر أدى إلى تجمد العملية السياسية وازدياد الإرهاب، ثم انتقل إلى الأعمال الإرهابية التي يقوم بها إسرائيليون ضد الفلسطينيين، وقال إنهم يأخذون القانون بأيديهم، وانتقد التحقيقات التي تجريها السلطات الإسرائيلية في موضوع الإرهاب اليهودي في الضفة، وقال ما نصه: «هناك الكثير من الحوادث التي ارتكبها إسرائيليون ومن خلالها أخذوا القانون بين أيديهم ولا يتم التحقيق معهم من قبل السلطات الإسرائيلية. في بعض الأحيان يخيل إليّ أن إسرائيل تتعامل بمعيارين لتطبيق القانون في الضفة الغربية، واحد للإسرائيليين والآخر للفلسطينيين»! وتساءل «هل هذه هي الاستراتيجية السياسية الإسرائيلية؟ وإذا كان الجواب بلا، فما استراتيجية إسرائيل؟»، وانتهى بالتأكيد على أنه يجب على الإسرائيليين والفلسطينيين والأميركيين إيجاد السبل والطرق المناسبة للحفاظ على فكرة حل الدولتين.

لم يكن من المحتمل أن يدلي السفير الأميركي بتصريحات تتضمن خروجاً صريحاً على مألوف السياسة الأميركية دون توجيه من حكومته، ناهيك أننا لم نسمع حتى الآن عن تنصلها من هذه التصريحات أو تصحيحٍ لها، ولهذا فقد ردت الحكومة الإسرائيلية على الفور بتصريح يصف التصريحات بأنها غير مقبولة وغير صحيحة وينفي عن إسرائيل تهمة ازدواجية المعايير في تطبيق القوانين على الإسرائيليين والفلسطينيين، أو أنها السبب في جمود عملية التسوية، فالسبب «هو السلطة الفلسطينية التي تواصل التحريض وترفض التفاوض معنا»! ووصفت مراسلة دبلوماسية إسرائيلية لإحدى القنوات الفضائية يوم الإدلاء بهذه التصريحات بأنه «الإثنين الأسود»! والواقع أن هذه التصريحات قد مثلت دون شك خروجاً على مألوف السياسة الأميركية الذي نعرفه فهي تدين الاستيطان وأعمال المستوطنين ضد الفلسطينيين، بل وتدين سياسة الحكومة الإسرائيلية تجاه هذه الأعمال بحسب أنها تكيل بمعيارين في التعامل مع الإسرائيليين والفلسطينيين، وتعتبر حكومة إسرائيل مسؤولة عن جمود عملية السلام. ولنقارن هذه التصريحات مثلاً بتصريحات الرئيس السابق جورج بوش الابن في المؤتمر الصحفي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق شارون في 2004 التي وصل التماهي فيها مع السياسة الإسرائيلية إلى حد اعتبار عودة اللاجئين الفلسطينيين أو تفكيك المستوطنات غير عملي بما يناقض السياسة الأميركية الرسمية! ولا شك في محاولة تفسير هذه التصريحات أن ثمة توتراً مكتوماً بين الرئاسة الأميركية بالذات وبين نتنياهو وسياسة حكومته. ولا ننسى أنه ذهب بعيداً في محاولة ليّ ذراع الرئيس الأميركي إبان مفاوضات الاتفاق النووي مع إيران إلى حد إلقاء خطابه الشهير المعارض لهذه المفاوضات في الكونجرس بدعوة منه، متخطياً الرئيس نفسه، فضلاً عن صراخه المتواصل طيلة إجرائها وصولاً إلى توقيع الاتفاق.

ولعل هذا الموقف هو الذي جعل الرئيس الأميركي يخرج بدوره على مألوف الرؤساء الأميركيين الذين كانوا عادة يكظمون غيظهم من الغطرسة الإسرائيلية إلى حين مغادرتهم البيت الأبيض كما فعل الرئيس الأسبق جيمي كارتر مثلاً. والواقع أن أوباما بغض النظر عن التقييم النهائي لرئاسته قد أظهر إصراراً على تنفيذ سياسته في قضايا ذات أولوية كما في قضايا التأمين الصحي والعلاقة مع كوبا والبرنامج النووي الإيراني.

ومع ذلك فعلينا ألا نذهب بعيداً في توقع عوائد إيجابية من هذا التوجه الجديد، فثمة فارق كبير بين الإعراب عن الرأي وبين الضغط على إسرائيل كي تغير سياستها، بالإضافة إلى أن الخبرة الماضية تفيد بحدوث تراجع عادة عن المواقف الأميركية الجديدة التي تسرنا، ولا ننسى تصويت أوران يونج مندوب الرئيس الأميركي الأسبق كارتر في الأمم المتحدة مع تفكيك المستوطنات، وكذلك تعليق جورج بوش ضمانات قروض بعشرة مليارات دولار بسبب سياسة إسرائيل الاستيطانية بحيث لم يترك لنا التاريخ مثالاً واحداً على اختلاف الساسة الأميركيين مع إسرائيل في قضية حيوية سوى موقف الرئيس الأميركي أيزنهاور تجاه الانسحاب الإسرائيلي من سيناء وقطاع غزة بعد عدوان 1956، وقد يحدث هذا التراجع في السنة المتبقية من رئاسة أوباما أو من خلَفه، وعلينا حتى إذا لم يحدث هذا التراجع أن نتيقن من أن حقوقنا لن تعود لنا إلا إذا غيرنا ما بأنفسنا.
&