كريم مروة

ميشال كامل هو واحد من النماذج الفذة للمناضل الثورى الذى جمع فى سيرته بين العلم والمعرفة وبين الرومانسية المتصلة بالاشتراكية. بدأ حياته السياسية هكذا، عندما كان فى سن العشرين. وتابع مسيرته ذاتها فى الأعوام اللاحقة، حتى بلوغه الثامنة والستين من العمر. وهو العام الذى غاب فيه عن الدنيا.

وكان ذلك فى زمن شهدت فيه مشاريع التغيير الكبرى باسم الاشتراكية مرحلة انكسارات هزّت وجدان وأحلام الملايين من سكان الكوكب. ومن يتابع سيرة هذا المفكر المناضل يتأكد من أن الرجل كان شديد الارتباط بأفكاره. كان راديكالياً إلى حدود الطوباوية التى يعبّر فيها الثورى الصادق عن إيمان بالمستقبل يتجاوز فى بعض الأحيان حدود الواقع.

كنت منذ زمن بعيد من بين الذين ربطتهم علاقة صداقة بميشال، دامت أكثر من ربع قرن. وهى الفترة الزمنية التى كان فيها قد أصبح أحد الرموز الفكرية المرموقة فى مصر وفى العالم العربى باسم الاشتراكية. وكانت بداية تعرفى إليه فى النصف الثانى من ستينيات القرن الماضى عندما كان يمارس دور مدير التحرير فى مجلة «الطليعة» التى كان يرأس تحريرها صديقه وصديقى لطفى الخولي. واستمرت العلاقة بيننا تقوى وتتوطد إلى أن جاء إلى بيروت ليقيم فيها بعد أن تعذرت عودته إلى مصر بسبب قرار كانت قد اتخذته حكومة الرئيس السادات باعتقاله مع عدد آخر من المثقفين المصريين من أهل اليسار الماركسى واليسار القومى ومن الديمقراطيين الليبراليين.

وصارت بيروت بالنسبة إليه وطنه الثاني. ففى بيروت وسَّع قاعدة نشاطه الفكرى والإعلامى والسياسي. وكان من أوائل ما عمل لتحقيقه فى بيروت، مع رفاق له وأصدقاء مصريين، إعلان الجبهة الوطنية المصرية التى باسمها خاض مع زملائه معركة الدفاع عن الحرية فى مصر. وباسمها ناضل وإياهم ضد الخطوات التى قام بها السادات فى اتجاه المصالحة مع إسرائيل، التى انتهت بتوقيع معاهدة كامب دافيد. وكان يرأس تلك الجبهة رئيس أركان الجيش المصرى فى حرب الاستنزاف الفريق سعد الدين الشاذلي، الذى كان قد اختلف مع الرئيس الراحل أنور السادات بعد غياب الرئيس عبد الناصر، ولجأ إلى الجزائر وأقام فيها. كما كانت من أبرز نشاطات ميشال إسهامه فى إعادة تشكيل الحزب الشيوعى المصرى بمشاركة مختلف أطراف الانقسامات الشيوعية السابقة.

ظلَّ ميشال يقيم فى بيروت ويسافر منها فى مهمات ويعود إليها من سفر، حتى عام 1982، العام الذى اجتاحت فيه إسرائيل لبنان. لم يستطع الخروج من بيروت إلاَّ بمغامرة ساعده فيها بعض أصدقائه. وكان ذلك على متن زورق نقله مع زوجته مارسيل وابنه بيبو فى اتجاه باريس عبر قبرص. وظلّت باريس مكان إقامته حتى وفاته فى عام 1992.

فى بيروت أصدر ميشال كامل دورية بعنوان «كتابات مصرية».

وهى كانت تصدر فى شكل كتاب يتضمن مقالات وأحاديث تتناول قضايا مصرية وعربية، سياسية وفكرية. وحين توقفت »كتابات مصرية« عن الصدور بدأ بإصدار مجلة «اليسار العربي» التى استمر يصدرها من باريس حتى آخر لحظة من حياته. وكان شعارها »من أجل جبهة وطنية ديمقراطية عربية تحررية موحدة على طريق التحرر والتقدم الاجتماعى والوحدة التقدمية الديمقراطية«.

أما «كتابات مصرية» فقد حدد لها فى المقدمة مهمتها بالنص التالى «إنَّ من يريد أن يخلق المستقبل يجب أن يكون قادراً على رؤية الحاضر على حقيقته. كما لا يمكن للقوى الثورية أن تدعى لنفسها القدرة على تغيير الواقع من دون فهمه. لا تستطيع القيام بدور طليعى فى النضال من أجل التقدم من دون أن تملك أسلحة فكرية متقدمة».

&وأذكر لحظتين كنا فيهما معاً فى منزلى برفقة مثقفين آخرين من بينهم حسين مروة ومحمود درويش ومهدى عامل وفيصل دراج.

اللحظة الأولى كانت عندما تلقينا نبأ اغتيال أنور السادات. يومها لم يفرح ميشال للنبأ، ليس حزناً على السادات، بل خوف على مستقبل مصر من جراء ذلك النوع من الاغتيال، وسيلة وقوى، ومن احتمالات ما كانت تخبئه الأحداث لمصر فى الفترة اللاحقة على ذلك الحدث. وكان ميشال محقاً فى قلقه وفى مخاوفه.

أما اللحظة الثانية فكانت عندما كان يشارك فى ذلك الاجتماع اليتيم فى منزلى مع مثقفين ديمقراطيين عرب من أجل تشكيل جبهة ثقافية عربية ديمقراطية للدفاع عن الحرية والاستقلال لبلداننا ضد أخطار الداخل والخارج. إذ بدأ الاجتياح الإسرائيلى للبنان فى ذلك اليوم بالذات، قبل أن يكتمل حضور المدعوين إلى ذلك اللقاء. فوجئنا بالطائرات الإسرائيلية تضرب المدينة الرياضية فى قلب العاصمة غير بعيد من منزلي. فأجلنا الاجتماع إلى الغد.

لكن ذلك الغد لم يأت بسبب الاجتياح الإسرائيلى للبنان عقب ذلك العدوان على المدينة الرياضية المشار إليها، إلا أن لقاءاتى مع ميشال توالت فى باريس على امتداد الأعوام اللاحقة من دون انقطاع.

غير أن بداية مسيرة ميشال النضالية فى منتصف الأربعينيات من القرن الماضى كانت بداية مثيرة. فقد شارك فى المعركة الوطنية ضد حكومة إسماعيل صدقى وضد المعاهدة التى كان قد عقدها صدقى مع الإنجليز.

وكان ذلك فى إطار «اللجنة الوطنية للعمال والطلبة» التى تأسست فى عام 1946. وتلك اللجنة والمعارك التى خاضتها تشكلان علامة فارقة فى تاريخ الحركة الوطنية المصرية. وكان ميشال فى تلك الفترة قد التحق بالجامعة لدراسة طب الأسنان، لكن اختفاءه واعتقاله مرات عديدة حرماه من متابعة دراسته.

وظلَّ يحرم من الاستمرار فى الدراسة إلى أن انتهى به الأمر إلى ترك الجامعة نهائياً ومتابعة تطوير نفسه بوسائله الخاصة. وهو ما هيأته له قدراته الفكرية والسياسية والنضالية التى بلغت أوجها فى أيام شبابه. وظلّت ترتقى مع الأعوام.

فى النصف الثانى من الخمسينيات أصدر ميشال كامل عدداً من الكتب والكراريس هي: «المؤامرة الأمريكية فى الأردن»، و«الاستعمار فى إفريقيا»، و«أمريكا والشرق الأوسط». وقام بترجمة كتاب «تشابايف» الشهير، رمز الفلاح الروسى البطل. واتجه فى فترة الضياع التى عاشتها الحركة الشيوعية واليسارية فى مصر، إلى ميدان السينما ليكتب السيناريوهات ويدير الإنتاج لعدد من الأفلام الوثائقية. وكان من بين تلك الأفلام فيلم عن توسيع قناة السويس، وفيلم عن البحث العلمى فى مصر، وفيلم عن الثالوث الإمبريالى الصهيونى العنصري، أميركا وإسرائيل وجنوب إفريقيا. وحين صدرت مجلة «الطليعة» عن مؤسسة الأهرام بقرار من الرئيس جمال عبد الناصر كان ميشال من أوائل الذين تحمّلوا فيها مسئولية مدير التحرير، إضافة إلى إسهامه فى الكتابة فيها بواقعيته وراديكاليته المعتادتين.

لم يتوقف ميشال طيلة حياته السياسية والفكرية عن الكتابة فى عمق الأشياء والأفكار، وفى تحليل الأحداث، وفى التنبؤ بالمستقبل، وفى وضع الخطط لهذا المستقبل. فهو لم يكن مفكراً وحسب، بل كان يجمع فى حياته وفى نشاطه الإنساني، بين الفكرة وأساليب نشرها وتعميمها وأدوات تحققها. لذلك انتسب، منذ وقت مبكر إلى إحدى الحلقات الشيوعية فى أواخر الأربعينيات، وتطور فيها وناضل، واكتسب موقعاً فى الحياة الفكرية والسياسية، وصار واحداً من أقطاب اليسار المصري، ومن أقطاب مفكريه، الذين عانى معهم عذابات السجن وعذابات التشرد.

&وفى عام 1966عندما شارك فى إصدار مجلة »الطليعة« مع نفر من المثقفين الماركسيين القدامى والجدد، برز كواحدٍ من كبار المنظرين لحركة ثورية عربية جديدة، هى محصلة ما كان الفكر الماركسى العربى بكل مكوناته قد أنتجه عبر التجارب، من خلال الأحزاب الشيوعية، ومن خلال الأحزاب القومية، وفى مقدمتها الحركة الناصرية. وكان فى ذلك الحين قد انتسب إلى التنظيم الطليعى للاتحاد الاشتراكى العربي، بعد أن توافقت التنظيمات الشيوعية المصرية على حلّ نفسها والانضمام إلى الاتحاد الاشتراكي. وكان ذلك فى عام 1965.

فى عقب وفاة الرئيس عبد الناصر عاد الشيوعيون إلى التفكير فى تشكيل حزب شيوعى مصرى موحد. وكان ميشال من أبرز الناشطين فى العمل لتأسيس هذا الحزب، لكنه سرعان ما وجد نفسه فى موقع مختلف مع رفاقه فى الحزب فانشق عنهم وأسس مع رفيقه نبيل الهلالى حزباً آخر. وظلّ ينشط باسم ذلك الحزب حتى آخر حياته.

عندما توفى ميشال فى مغتربه باريس ودفن فيها، كتبت عنه متسائلاً: هل كان على ميشال كامل أن يقول شيئاً لم يقله من قبل، عندما أحس أنه سيغادر القول إلى الأبد؟ هل كان عليه أن يضيف جديداً إلى ما دوّنه من أفكار فى كتاباته العديدة الغنية التى ملأت صفحات مجلة «اليسار العربي»، و«كتابات مصرية» قبلها، والكثير من الصحف والمجلات العربية، خلال غربته عن مصر التى امتدت عقدين ونيف من الزمن؟

أجبت يومها عن تساؤلى فيما ملخصه أن ميشال كان فى السنوات الأخيرة من حياته، التى امتنع فيها عن الكتابة وأكثر فيها من القراءات والمتابعات، يهيّئ لشيء جديد لم يكن قد نضج عنده. لكنه كان يريد لهذا الجديد أن يخرج، بمساهمة منه ومن سواه، من حال الإحباط والتشوّش إلى نوع من الحركة فى الفكر والعمل تعيد الاعتبار إلى عملية التجديد فى خلايا الصراع السياسى والاجتماعي، فى اتجاه الارتقاء كمحصلة لهذا الصراع ولذبذباته.

دليلى على ذلك ما اكتشفته فى لقاءاتى الأخيرة معه، قبل أشهر من وفاته، من سعى عميق عنده لم يُفصح هو عنه، سعى وراء أجوبة أو مشاريع أجوبة عن أسئلة غير مكتملة كانت تطرحها الحياة عليه وعلى الناس جميعاً، فى ذلك الزمن الصعب وتحولاته المذهلة على غير صعيد. وهو سعى لم يكن يريد ميشال إجهاضه بالتسرّع فى الاستنتاجات. ولم يكن يريد أن يكشف عنه الستر قبل الأوان. وقد بدا لى ذلك من حديثه الهادئ الخافت معي، الأقرب إلى التأمّل منه إلى أى شيء آخر.

كان فى تلك الفترة يعانى الخيبة التى تمثلت بانهيار الاتحاد السوفيتى والتجربة الاشتراكية التى كانت بالنسبة إليه طريقه الحقيقى إلى مستقبل بلاده ومستقبل العالم.&