صالح عبد الرحمن المانع

في عام 2013، أي بعد عام واحد من استقالته من رئاسة المخابرات الأميركية، صرّح الجنرال ديفيد بترايوس في مقابلة صحفية بأنّ الرئيس الأميركي باراك أوباما لن يقبل بسقوط مدينة حلب بيد قوات روسية أو إيرانية، خاصةً وأنه قَبِل بإهانة الأسد له حين قام الأخير باستعمال الأسلحة الكيماوية ضد شعبه في الغوطة بالقرب من دمشق في أغسطس 2013، كما تغاضى عن استعماله لهذه الأسلحة في خان العسل بالقرب من مدينة حلب.

وكان بترايوس يشرح أهمية مدينة حلب كثاني أكبر مدينة في سوريا، وأنها لا تبعد عن الحدود التركية أو حدود حلف «الناتو»، إلا خمسة وأربعين كيلومتراً.

لكن الإشكالية أنّ الرئيس أوباما لم يكن يعير مستقبل سوريا الكثير من الاهتمام، بغضّ النظر عن دعم الحكومة الأميركية للمعارضة بحوالي خمسمائة مليون دولار سنوياً.

وكذلك فإنّ الرئيس أوباما، انصاع للضغوط الإسرائيلية بعدم منح المقاتلين السوريين مضادات طائرات محمولة، خشية استخدامها ضد أهداف إسرائيلية، أو أهداف غربية محتملة في المستقبل. وهذا ما جعل المعارضة لا تستطيع الدفاع عن المدن التي حررتها من يد قوات النظام في ضوء استخدام قوات النظام للبراميل المتفجرة، وكذلك حليفه الروسي للصواريخ من الطائرات التي كانت تدكّ هذه المدن. هذا الوضع الاستراتيجي غير المتوازن، وغياب الغطاء الجوي، هو الذي أفقد المعارضة مواقعها، ومنها شرق مدينة حلب، وجعلها في موقف ضعيف لا تستطيع من خلاله الدفاع عن أهل المدينة، بعد أحد عشر شهراً من الحصار.

وبعد الضغوط الدولية الهائلة على كلٍ من روسيا والنظام السوري، انصاعت موسكو لتلك الضغوط، تخوّفاً من قدوم إدارة أميركية متشددة بزعامة ترامب، وأجْلَت الآلاف من المدنيين المحاصرين في المدينة. وتحاول موسكو الآن إعطاء صبغة شرعية لعملياتها العسكرية في سوريا، وذلك بإعطاء كلٍ من تركيا وبعض الدول العربية المؤثرة فرصة للتعبير عن وجهة نظرها. وظهر ذلك بوضوح في اجتماع كازاخستان الأسبوع الماضي. وربما كانت مستعدّة في هذا الشأن للتخلّي عن حليفها الرئيس في دمشق، بشار الأسد، بصفته مجرم حرب، وتنقله وعائلته إلى إحدى المدن الروسية.

وحين نجحت روسيا بقوتها الجوية وبتغاضي غربي ملموس، في تحطيم المدن السورية، فإنها لن تكون قادرة في المستقبل على إدارة الحكومة السورية المستقبلية أياً كان شكلها، كما أنها لن تكون قادرة على إعمار المدن السورية التي هدمتها، وذلك كجريمة حرب واضحة تحت طائلة القانون الدولي الإنساني. وتحاول في هذا الشأن أن تستجدي الأموال والاستثمارات الخليجية لإعادة بناء المدن السورية المدمَّرة.

غير أنّ الكاسب الحقيقي في المدى القصير هو إيران التي فتحت لها ممراً آمناً من أصفهان وحتى البحر الأبيض المتوسط، مروراً ببغداد ودمشق وحلب وبيروت. ومثل هذا الهلال الشيعي الطائفي الذي ستتبناه طهران سيكون مفيداً لها في المدى القصير، أما على المدى الطويل، فهو بالتأكيد سيكرس العداء لها في الدول العربية، سواءً من قِبل الدول والشعوب العربية التي لن تسمح للدول الماكرة التي قتلت الشعب السوري أن تتمتع بلذة انتصارها.

فالشعب السوري الذي شُرِّد أكثر من 11 مليوناً من أبنائه، وهُجِّروا في أنحاء الأرض، لن يقبل بأن تمر مثل هذه الجريمة دون عقوبة على المجرمين الذين اقترفوا مثل هذه الجرائم. وسيكون لِزاماً على منظمات المجتمع المدني السورية، كما العربية، أن تنشر وتوثّق مثل هذه الجرائم، حتى يمكن مطاردة مقترفيها، أياً كانت جنسياتهم، وأياً كانت رتبهم المدنية أو العسكرية، في المحاكم الدولية. وبمثل هذا، يمكن ملاحقة هؤلاء المجرمين أمام محاكم مختصة بالقانون الدولي الإنساني، أو محاكم عادية في البلدان الأوروبية.

ومن ناحية ديموغرافية، فإن هزيمة السوريين في حلب والغوطة وغيرها من المدن السورية، ستعني إزالة شعب كامل من أراضيه وتحويله إلى لاجئين وإحلال أقليات محلية وإقليمية محلّه، حتى يكتمل التغيير الديموغرافي للمدن والقرى السورية. غير أن إرادة الله ثم إرادة الشعب السوري الذي تحمّل تغاضي المجتمع الدولي عن مثل هذه الجرائم سينتقم من مجرمي الحرب ويطاردهم في كل مكان، لينالوا ما استحقوه بجرائمهم ضد هذا الشعب.

أما المعارضة السورية، فعليها أن تغير من تكتيكاتها التي تبنتها في الماضي، وذلك بتبني العصيان المدني كوسيلة رئيسة في الصراع مع النظام الطائفي الحاكم في دمشق.