&عبد الله القفاري

&سيسجل التاريخ أن مطلع 2011 كان إيذاناً بافتتاح عشرية الاضطراب الكبير في تاريخ العرب الحديث. فمنذ ذلك العام بدأت ملامح مرحلة جديدة تتحرك في مسار مضطرب غشته موجات من الهدم والدم والتقويض.

المشكلة دوماً ليست في المؤامرة الخارجية وحدها.. حتى لو كانت تستهدف إطالة عمر الصراع ومزيداً من الإثخان.. المشكلة في المنطقة العربية مركبة. فمناطق الصراع والاضطراب والاقتتال.. ضحية نظم لم تستهدف يوماً بناء الإنسان..

يستعيد العرب حصاد خمس سنوات من انتفاضات وثورات الشعوب العربية في عديد الأقطار العربية التي كانت مسرحاً لتلك التحولات القاسية والدموية والمستمرة حتى اليوم.. إلا انه ليس من المتوقع وفق المؤشرات الحالية سوى أن يشهد العرب عشرية كاملة قبل أن تظهر ملامح مرحلة جديدة.

الصورة السائدة اليوم، أن ثمة مؤامرة كبرى استهدفت التفتيت والتقويض وإشعال المنطقة العربية لأمد بعيد بصراعات الدم والهدم. ومنذ الأيام الاولى لعام 2011 بدأت العقول المسكونة بالمؤامرة بالاتكاء عليها لتفسير تلك التطورات الخطيرة، التي لم يكن حصادها حتى اليوم إلا مزيداً من التورط والتفتيت والاقتتال والإعاقات الكبرى.

وفي هذا الإطار، تعاني تلك التصورات من تناقضات حادة. فمن حرك المؤامرة؟ ولماذا في هذا الوقت؟ وهل كانت تلك النظم مستهدفة؟ ولماذا بعد تلك السنوات الخمس لا تظهر في علاقة النظم المقاومة للتغيير ما يوحي باستهدافها من صناع المؤامرة؟!

تفسير الوقائع المعقدة يستسهل المؤامرة، ليضع حجاباً بين فهم مسارات التاريخ وحراك البشر واحتباسات الأمل بالتغيير الإيجابي.

وعلى أن الأكثر أهمية ليس التوقف عند صناعة مؤامرة قوامها حركة الشعوب عبر انتفاضات سلمية في بداياتها ومنطقية في مطالبها ومفهومة في حضورها وجاذبيتها.. إنما المؤامرة في استثمار تلك الأجواء لصناعة عوامل التفتيت والاحتراب الداخلي عبر سلسلة من التطورات جعلت من المستحيل أن تظل تلك الانتفاضات السلمية مستمرة حتى بلوغها أهدافها التي صدحت بها في الشوارع والميادين.

تحويل مسار الانتفاضات السلمية إلى حلقات من الصراع الدموي عبر استدعاء منظومات التطرف والإرهاب والتحالفات، التي وظفت الطائفية والانقسام في عمق المجتمعات العربية، أدخل المنطقة في كابوس طويل عنوانه عذابات التهجير والتدمير والقتل اليومي.. بل وحتى التغيير الديموغرافي على أسس عرقية وطائفية، والذي يعبر عن كارثية تلك الحالة التي استهدفت حسم الصراع عبر تحويل مساراته من مطالب حقوقية إلى صراع مع جماعات الإرهاب.. وهو لم يكن له مؤطئ قدم قبل أن يصبح عنواناً كبيراً لمجهود المواجهة التي لازالت رحاها تدور على أشدها اليوم.

أما الثورات المضادة، فهي ليست سوى جزء من مؤامرة أخرى، تستهدف حسم الخيارات لإعادة الأوضاع إلى نقطة الصفر، مهما كلف الأمر من استنزاف وتفتيت وشرذمة القوى الاجتماعية والسياسية، ومهما جر ذلك من تبعات اقتصادية ومعيشية، ستكون فيما بعد الإشكال المستعصي والدائم الحضور في أجندة شعوب تلاحق يومياتها للوفاء بحدود الكفايات لا سواها.

&

لا أحد يستطيع أن ينكر أن ثمة منطقة تعيش حالة صراع، المؤامرة جزء من عناوينه على مدى أكثر من قرن.. خاصة بعد زراعة الكيان الإسرائيلي في قلبه، ولا أحد يستطيع بعد كل هذا الانكشاف على الدور الأميركي والروسي والأوروبي أن ثمة صراعات غير معلنة لكن تعبر عن نفسها في مؤشرات لا تخفى أن ثمة مؤامرات وخطط تستهدف إعاقة المنطقة لأمد بعيد..

إنه ليس من المنطق ولا العدل أن نرى كل مطالبات شعبية خرجت على شكل انتفاضات عفوية هي جزء من مؤامرة.. وربما كان التعبير الأدق استثمار تلك الانتفاضات في صناعة أوضاع لم تكن في صالح الشعوب، قدر ما كانت موجهة لإغراق المنطقة في حلقات متصلة من الصراع.. ولم يكن الصراع الطائفي سوى أحد تجلياتها.

ومن المجازفة اليوم، وبعد خمس سنوات على تلك الأحداث الكبرى التي جرت إلى ما جرت إليه، القول إن حدود الصراع توقفت عند هذا الأفق.

هناك عشرية من الاضطراب.. ستكون العنوان الأهم في تقرير مستقبل العرب في هذه المنطقة من العالم.. من ليبيا إلى تونس إلى مصر إلى سورية والعراق فاليمن.. لا أحد بالتأكيد يملك إجابة عما ستؤول إليه الأمور والأوضاع.. إلا أن الواضح من المؤشرات الحالية أن حالة الصراع ستكون أشد وأعنف، وستكون هناك مراحل هبوط وصعود.. وأخرى تحمل في طياتها ملامح تغييرات كبرى..

المشكلة دوماً ليست في المؤامرة الخارجية وحدها.. حتى لو كانت تستهدف إطالة عمر الصراع ومزيداً من الإثخان.. المشكلة في المنطقة العربية مركبة. فمناطق الصراع والاضطراب والاقتتال.. ضحية نظم لم تستهدف يوماً بناء الإنسان، ولم تكن الأمية والهشاشة الذهنية والخواء الداخلي قضيتها، ولم يكن هدف الترقي بالإنسان مشروعها.. بل استثمرت طاقتها في بناء منظومات القمع والإقصاء والاستئثار.. وصناعة تحالفات تعتمد مشروعات تقصم ظهر المنطقة ولا تحافظ على نسيجها..

كما أن المشكلة الأخرى تتمثل في أن ما يدعى بمجتمع النخبة لم يعد يشكل قوى فاعلة ومؤثرة.. وكان واضحاً في سياق الانتفاضات الشعبية، التي كانت عفوية ومباشرة ودون رؤية أو منظومة سوى ما كان منها مطلبياً يفتقر الى أجندة جامعة على أسس التغيير ومنطلقاته.. بينما كانت البنية الحاكمة والمؤثرة جزءاً من نسق البناء القديم الذي قاد لتلك الاستعصاءات، التي فجرت تلك الجموع البشرية في لحظة تاريخية خاصة ومفاجئة وغير محسوبة وسرت بالعدوى لدول أخرى.. باعتبارها حلماً خلاصياً.. وكان الوهم أنه بمجرد سقوط رأس النظام او اختفائه ستتحقق الأهداف التي تتطلع إليها.. بينما كانت المسألة أعقد بكثير من تلك التصورات لحسم مشهد النهايات.. مهما غلفها من عفوية وصدق.

ثم رأينا كيف تحولت النخب السياسية إلى جزء من المشكلة وليس الحل. فحالة الانقسام شكلت أبرز ملامح العداء السافر والخفي بين تلك النخب.. ناهيك عن سهولة استقطابها بوسائل كثيرة لتشكل حالة إعاقة.. آثارها بادية اليوم بلا لبس أو غموض.

في كل الحالات التي أمكن فيها التخلص من رأس النظام، لا زالت حتى اليوم تعيش حالة عدم اتزان، وهي عرضة للتراجع والانكفاء، أو حالة اقتتال شرس وهدم مستمر وصراع دائم، أو حالة تحالفات للهدم والتقويض والإعاقة.. أو حالة يأس وإحباط وربما كوراث اقتصادية ومعيشية وإنسانية.

التحولات الكبرى لا تقضى بين عشية وضحاها، ومسارات التغيير لا تحسمها انتفاضات أيام فحسب وشعارات عابرة للفضائيات.. إنها سلسلة من التحولات والقناعات والرؤى والتفاعلات.. تتطلب المزيد من الحقائق على الأرض لتستوعبها شعوب تتوق للخلاص.

&

ربما كتب المؤرخون يوما أن العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين هي عشرية الاضطراب الكبير في المنطقة العربية.. ومن باب التمني أن يأتي على أنقاض هذه العشرية بناء يقطع مع الماضي الأليم والنظم العقيمة ومسلسل الدم والهدم والتقويض الذي عانته شعوب تتطلع كغيرها من شعوب العالم لحياة أفضل.

&

&