&أحمد جابر

ما زالت القضية الفلسطينية تشكل مادة توظيف سياسي يقطع المتحدث باسم مصالحها «قول كل خطيب»، وما زالت فلسطين مادة للاستعمال السياسي على رغم كل الإهمال الذي أصابها، ممن نهضوا باسمها بعيد احتلالها، ومن الذين توارثوا رفع الراية منذ ذلك الزمن، وحتى يومنا السياسي الراهن.

يسترعي الانتباه، أن وقع الاسم الفلسطيني يحتفظ بشحنة نوستالجيا تزداد حرارة كلما ابتعد موضع «الحنين» عن حدود فلسطين الطبيعية، هكذا يمكن أن تجد ساكن المغرب العربي، في الجزائر أو تونس أو المغرب، متمسكاً بخطاب نضالي أعلى حيال فلسطين السليبة، ومتعاطفاً مع كل الأحزاب والحركات التي يقوم خطابها على بند الكفاح المسلح ضد الغزوة الصهيونية. على وجه من الوجوه، ما زال شعار ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، ماثلاً في أذهان شرائح عربية واسعة، ولمّا يعرف طريقه إلى الزوال. تدقيق هذا الجانب، والتوقف أمام معطيات قوته ورسوخه، أقله في «الوجدان العربي العام»، من الأمور الموضوعية التي ما زالت تدل على حقيقتين اثنتين: الأولى أن مسألة التطبيع مع احتلال فلسطين، وما يرتبط بها من إلغاء شخصية الشعب الفلسطيني، ومن إنكار وجوده الأصلي فوق أرضه، هذه المسألة ما زالت عصية على النفاد إلى الوعي العربي عموماً، وعلى تحولها إلى بند طبيعي من بنود الحياة السياسية في المنطقة، وضمن البلاد العربية.

أما الحقيقة الثانية، فإن مطلب الحرية الذي تبنته الأنظمة العربية التقدمية باسم فلسطين، ثم عادت واغتالته من أجل خدمة الاسم ذاته، هذا المطلب ما زال راسخاً كحاجة ماضية للتقدم صوب تحرير فلسطين، وصار أكثر رسوخاً في الحاضر، لكسر الاستبداد الذي مارسته أنظمة التقدمية بدعاوى الاستعداد للتحرير، ورفع المهانة الوطنية والاجتماعية التي قامت عليها سياسات تلك الأنظمة. كسر الاستبداد ورفع المهانة وامتلاك الحرية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، هذا ما نادت به الحركة الشعبية التي اندلعت في الشارع، في غير بلد عربي، وهذا الخيط الهادي لأول صوت معارض، بغض النظر عن كل ما آلت إليه الأمور مع بقايا أنظمة الردة النضالية والمجتمعية.

ولم يكن لبنان لينجو من آثار النضالية العربية العامة وتداعياتها، بل هو اختار نسخته الخاصة التي لاءمت بنيته الأهلية، واستجابت مصالح قوى مختلطة داخلية، مارست الاجتهاد حول موقع لبنان العربي ودوره في محيطه، وفي الصراع العربي الإسرائيلي وملحقاته، وتجاوزت الاجتهاد إلى ممارسة عملية كان من تجلياتها الالتحاق بالأنظمة العربية المصنفة تحررية، والانخراط في الحركة القتالية الفلسطينية. تميز اللبنانيون «العروبيون والتقدميون» عن أقرانهم العرب، بأن نضاليتهم كانت مزدوجة، فهي جمعت بين العسكري والسياسي، ودمجت بين الوطني والاجتماعي، وعندما لاح لها أن الوضع اللبناني سائر إلى منحنى صدامي، قفزت هي إلى مركب الصدام، واختارت وجهة اللارجوع... النضالية.

لقد ارتدَّت كل النضالية العربية في ديارها، وتقدميتها لم تعمِّر طويلاً، إذ سرعان ما ظهر التناقض بين الشعارية والواقع، وما كان وعداً بالسير إلى الأمام، تكشف عن سير عكسي، كان من نتائجه النزول تحت سقف عدد من الإنجازات المتحققة في ظل الأنظمة التي انقلب النضاليون عليها، وكان من نتائجه أيضاً سدّ منافذ التعبير السياسي الشعبي، بما فيها تلك التي كانت مفتوحة أيام «الملكيات الرجعية»، والتي كانت ربما، متصلة بأفق انفتاح أوسع من ذاك الذي وعدت به مجالس قيادات الثورات.

النسخة اللبنانية ورثت حصيلة أنظمة الردة النضالية، من دون أن يكون لها مجلس قيادة ثورة، ومن دون بلاغ رقم واحد. هنا توافر للبنانيين أكثر من بلاغ انقلابي، بالتناسب مع عدد الشرائح الأهلية، لكن الجميع حصد حرية حقيقية أقل، وفوضى أكثر، واهتزازاً كيانياً أشد، وتمزيقاً أوسع للنسيج المجتمعي اللبناني، وتبديداً لعناصر الوحدة الداخلية التي كانت آخذة في التراكم، وتصعيباً لافتتاح مسار مستقبلي وطني آخر، هذا التصعيب يلامس اليوم حدود التلاعب بكل المقومات الوطنية المصيرية.

وإذ تتكافل «الأهليات» اللبنانية وتتضافر في مجال ابتكار الصعوبات الداخلية، فإن الأبرز من بينها في مجال الصعوبة، تظل نسخة النضالية الراهنة، التي تريد لفلسطين ما لا يريده أهلها من برامج وسياسات وأساليب عمل، وتريد للعرب ما لا يريده العرب لأنفسهم أيضاً، وتقرِّر للبنانيين ما ترضاه هي لذاتها النضالية، بغض النظر عن إرادة الداخل، ومن فوق رأس مصالح الجميع. تجتمع في النضالية القتالية اللبنانية سمات من نسخ النضالية العربية، فهي تشترك مع شبيهاتها بالشعارية وبالإرادوية، وتسلك مسالك من سلف بالإقصاء السياسي، أي أنها نسخة تحكُّم لبنانية خاصة، لأن الاستبداد العام بالوطن ما زال متعذراً. إلى ذلك تقيم النضالية اللبنانية في حومة تعبئة دائمة، لمهمة قتالية تبدو بعيدة بسبب من سياسات النضالية ذاتها. هل يعني ذلك أن المسألة الفلسطينية قد عرفت خواتيمها السعيدة؟ الجميع يعرف أن الجواب لا، لكن الغالبية الشعبية، اللبنانية والعربية، تدرك أن ورود مورد فلسطين يحتاج إلى سياسات أخرى، من بينها مراجعة أسباب الخسائر التي أحدثتها الردّة النضالية، وأن «المبتدأ» السياسي يجب أن يكون، في الوطن أولاً، هذا ليكون «الخبر المجدي» في ما يحيط بالوطن من أوطان. خلاصةٌ يحتاجها لبنان، مثلما تحتاجها كل البلاد التي حُكمت ببناء «التقدمية التحررية»، وسيقت بسياط جلاديها.