صالح الديواني

لم أر في حياتي جماعات مهووسة بربط كل صغيرة وكبيرة بالدين، مثلما تفعل جماعات الإسلام الراديكالي، والإسلام السياسي، التي تسعى جاهدة إلى أسلمة كل شيء وطمس هوية كل شيء في تاريخ الإنسانية، وطمس تراثه العالمي، وهو ما تذهب إليه المعتقدات الأصيلة داخل هذه التيارات المتلبسة بالإسلام.

وترى تلك الجماعات المؤدلجة أن ذلك هو المشروع المضاد الناجح لإيقاف عجلة تأثير مد التغيير العالمي للفكر والاقتصاد والسياسة على المجتمعات العربية، وهو تفكير قد يكون سليما فيما لو كانوا يمتلكون منتجا صناعيا واقتصاديا وسياسيا وفكريا موازيا، يستطيعون معه النزول إلى الميدان المشترك ذاته.

لكن ما تملكه في الواقع لا يعبر عن منجزات ملموسة لها القدرة على مواجهة مد الثقافة الغربية من جهة وثقافة الشرق الأدنى من جهة أخرى، فما نملكه ليس سوى منجزات الناقلين لا المبدعين، المترجمين لا أصحاب المنجز.

والثقافات الأخيرة (اليابانية – الصينية – الكورية – الهندية - المنغولية) لا تحظى بحجم الكراهية والخوف معا على الجانب الديني، بنفس ما تحظى به تلك التي تقع إلى الغرب من المتوسط، لأنها لم ترتبط بحروب تاريخية وحكايات في الضمير العربي والإسلامي، كما أننا كمسلمين، توقفنا عند حدود مقنعة ربما، أو قد تمت إذابتنا داخلها واستوعبتنا على نحو ما.
لقد ركزت غالبية الجماعات الإسلامية الراديكالية في الواقع، على التحذير الإنشائي المستمر من خلال رفع عقيرتها بالصوت العالي، والمواجهة المعتمدة على إكراه المجتمعات بتطبيق رؤيتها وأفكارها المحصورة في اتجاه أحادي، ولا يفكرون في كيفية استطاعة مجاراة الآخر بطريقة تعبر عن فهم للمعركة وميدانها الجديد، إذ يغلب على تلك الأطروحات جانب التشنج وبث الرعب والكراهية والعداء والعنصرية، والتخويف -داعش مثالا-.

وهذا في الحقيقة تعبير عن مدى العجز والضعف الذي تشعر به في قرارة نفسها، فقد اختصرت تلك الجماعات الدين ومفاهيمه في الخطب والإنشائيات والمنابر ورفع العقائر، وأولت النصوص كما تراه مناسبا لمكاسبها السياسية والفكرية وتوجهاتها، وكان مفهوم الجهاد أكثر المفاهيم التي تم الاستيلاء عليها بقوة، وهو المصطلح الذي أولوه وحصروه في القتال والعنف وميادينهما، وهي إسقاطات ومتناقضات كلفت مجتمعاتنا العربية والإسلامية غاليا ولا تزال.

وهذه التحذيرات والدعوات المستمرة التي تطلقها الجماعات الإسلامية الراديكالية وبعض المتعاطفين مع الإسلام الراديكالي على الدوام في هذا الاتجاه، أضفت ارتباكا على مفهوم المواجهة وطرقها في الذهنية العربية والإسلامية، فلجأت طبيعياً إلى تربية البيئة العربية الجافة وثقافاتها التي لا ترى أسلوبا ناجعا للمواجهة في غير المواجهة العنيفة التي تعتمد على زرع أفكار الحرب والقتال كإستراتيجية ردع.

وقد اعتمد الإسلاميون الراديكاليون على مدى قرون، على مبدأ كبح جماح المتغير والجديد بالتحريم والتحذير والتخويف عبر الخطب الإنشائية، التي تعد من صميم وصلب الثقافة العربية المنبرية، ولم تتغير سياسته على مدى تلك القرون حتى وصل إلينا.

والتفكير في مواجهة المتغيرات الصناعية والفكرية والاقتصادية يفترض في الواقع أن يكون موازيا لا أن يكون مجرد ردة فعل مشوَّهة ومشوِّهة في الوقت نفسه للوعي العربي، فالأمر برمته يعتبر منظومة من المتلازمات، ينبغي التفكير في كيفية تراتبية حدوثها وتطورها.
والمتابع لمسيرة التاريخ سيرى قفز المنجز الإنساني والبشري في الـ200 عام الأخيرة من تاريخ البشرية، التي تعتبر بحق، قفزات خرافية بالفعل على مستوى العلوم والتكنولوجيا والفكر والاقتصاد والمعرفة والخبرات والاكتشافات والمخترعات، وبات من الصعب التعامل مع هذه المتغيرات والقفزات بأسلوب التعامل مع الخرافة وأطروحاتها، والمنقولات التي لا تعتمد البراهين المنطقية، لأننا هنا أمام متغير من نوع آخر يعتمد على البرهان المادي التجريبي، ولن تنجح محاولات التحذير الخطابية الإنشائية التي يعتمدها الإسلام الراديكالي ومجموعاته.
لذا فمن المهم أن يعي العرب والمسلمون أن كل محاولات استحضار الماضي لمواجهة متغيرات الحاضر والمستقبل، ما هي إلا محض دوران في المكان، وتعطيل للقدرات الفكرية ومقوماتها المتينة في الثقافة العربية والإسلامية، وأن المنجزات الحقيقية تكمن في إعادة التعرف على قيمة وكمية ما نملكه، وليس التخطيط لإسقاط وتحريب ما يملكه الآخر.

وأن علينا الخروج من قبضة الماضي، وهوس إسقاطه على كل صغيرة كبيرة تتعلق أو لا تتعلق بالحياة أو أي شكل من أشكالها.
&