روعة قاسم

& لم تكن صدفة ان يتم اختيار صفاقس عاصمة للثقافة العربية لسنة 2016 فهذه المدينة تزخر بالعديد من المعالم الأثرية والثقافية والتاريخية الهامة ولعبت دورا حضاريا هاما في تونس بعلمائها ومصلحيها وأعلامها.


تطل مدينة صفاقس الجنوبية على خليج قابس على الواجهة البحرية الشرقية (لتونس واجهتان بحريتان على المتوسط واحدة شمالية وأخرى شرقية) وهي عاصمة الجنوب التونسي، رغم أنّها تقع في وسط البلاد، وذلك لأنّها ثاني أكبر المدن التّونسيّة في المساحة وفي عدد السكان. وتختلف الرّوايات حول تسمية هذه المدينة، فهناك من ينسبها إلى القائد الأمازيغي سيفاكس، وهناك روايات أخرى لا تبدو منطقية، لكن المهم أن وجود المدينة قديم ويعود إلى الحقب التي سبقت ميلاد المسيح.

كنوز تاريخية ومعمارية

المؤرخ عبد الواحد المكني الكاتب والأستاذ المحاضر في التاريخ المعاصر والانثروبولوجيا التاريخية في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس من أبرز أعلام هذه المدينة، كتب عديد المؤلفات التي تسرد تاريخها أهمها: «الحياة العائلية بجهة صفاقس بين 1875 و1930»و «شتات أهل وسلات بالبلاد التونسية 1762 حتى مطلع القرن العشرين»و«النخب الاجتماعية التونسية زمن الاستعمار الفرنسي»، يروي في حديثه لـ «القدس العربي» أهم المحطات التاريخية التي شهدتها المدينة فيقول:»صفاقس مدينة عربية مشهورة كانت تسمى محروسة صفاقس، أي محروسة بالسور الذي بني في القرن الثالث هجري بناه الأمير الأغلبي ابراهيم ابن الأغلب. وهذا السور اعطاها شهرة، وهي قبل ذلك وارثة لعدة مواقع موجودة حولها مثل موقع اكولا. وشهرة صفاقس ارتبطت فيما بعد بتجارتها سواء البحرية أو البرية وأيضا بتجارها. وفي صفاقس معالم كبيرة معروفة مثل الجامع الكبير الذي بني في الزمن الأغلبي وأيضا توجد الفسقية الناصرية التي بنيت في العهد الموحدي وهي عبارة عن 365 ماجل بعدد أيام السنة، قام بترميمها لاحقا ملك تونس علي باي في العهد الحسيني في القرن الثامن عشر، والماجل هو مكان لتجمع مياه الأمطار تشتهر بها المدن التونسية القديمة».

أولياء وعلماء

بوضح المكني ان صفاقس اشتهرت أيضا بعدد من العلماء والصلحاء والأولياء، من أبرزهم أبو الحسن اللخمي وأيضا سيدي بلحسن الكراي ومخلوف الشرياني وكلهم من الأولياء والعلماء الذين جمعوا بين الصلاح والعلم، فيهم من يقطن المدنية وفيهم من يقطن خارجها وعلى السواحل قريبا من البرج البيزنطي الموجود بين مدينتي المحرس والصخيرة. أيضا اشتهر في صفاقس في فترة الازدهار علي النوري الذي درس في الزيتونة في تونس ثم الأزهر في مصر وعاد في مطلع القرن الثامن عشر، وهو الذي قام بالنهضة العلمية والثقافية لصفاقس وأسس الاسطول الدفاعي الشهير لحماية المدينة من هجمات القراصنة.
كما تميز سكان صفاقس عبر التاريخ بالجمع بين العلم والتجارة وكان أغلبهم يهاجرون إلى الاسكندرية وغيرها.

مواقع هامة

ويشير محدثنا إلى ان صفاقس تزخر بعدد من المعالم الأثرية، إذ لا يجب ان نتحدث عن المدينة وحدها بل هناك عدة مواقع عريقة أثرية حولها على غرار موقع اكولا وموقع باراروس قرب سيدي أحمد بن الحسن بن محمد الورشاني وهي مدن أثرية مندثرة انتقل أغلب سكانها إلى صفاقس واندمجوا وأصبحت لهم ألقاب أخرى. ويجب ان نأخذ بعين الاعتبار ان صفاقس ظهيرها يضم مدنا على غرار منزل شاكر وبئر علي بن خليفة وعقارب وخاصة جزيرة قرقنة، وتسمى هذه المنطقة جهة صفاقس أو وطن صفاقس.
وهي المدينة الأكثر مواجهة للاستعمار الفرنسي، اذ يؤكد مؤرخنا ان أغلب المدن لم تقاوم، فيما صفاقس صمدت تقريبا شهرا كاملا، ودخلها الجيش الفرنسي بعد مقاومة عنيفة وقام بمجزرة كبيرة في صفوف السكان وأحرق الناس أحياء في المساجد، وهي جرائم حرب. كما تمت سرقة مفتاح المدينة وهو إلى حد الآن في أحد المتاحف الفرنسية. ويدعو المؤرخ المكني إلى استرجاعه لأنه رمزي ويحمل دلالة خاصة لأهل المدينة على حد قوله. فصفاقس كان فيها بابان اثنان، باب الديوان أو البحر والباب الجبلي الذي يفتح على المنطقة البرية. كما اشتهرت بضواحيها القريبة أو ما يسمى بمنطقة جنان، لأن أهل صفاقس كانوا يقطنون المدينة العتيقة والجنان.

موروث حضاري

يتابع الباحث حديثه عن أهم ما تشتهر به المدينة فيؤكد ان المجتمع الصفاقسي لديه جملة من العادات والتقاليد سواء في المأكل والملبس أو في الحياة اليومية، وحتى في نمط التدين. فأغلب الصفاقسيين هم من المنتمين إلى المذهب المالكي، وكانت توجد أقلية حنفية قي القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وهي من أصل تركي.
بالنسبة للواقع الثقافي اليوم يضيف: «المتغير في صفاقس للأسف الشديد هو ظهور موجات التطرف في السنوات الأخيرة، وهذا لم يكن يعرف سابقا في صفاقس لأن أغلب علمائها عبر التاريخ هم من المتسامحين المرنين الذين يعتبرون الدين وســيله للتقدم والتسامح وليس وسيلة للتشفي».

عادات وأكلات

صفاقس ككل المدن لها ثقافتها المحلية، ومن أهم عاداتها في الزواج نجد مثلا عادة «القفز على السمك» فالذي هو رمز للخصوبة وهو في المخيال العربي المتوسط يرمز إلى العذرية. فكل عروس صفاقسية يوم الزفاف تقوم بالقفز سبع مرات فوق السمك بمساعدة زوجها في دلالة على التشارك والتعاون. أما بالنسبة للأكلات فقد خضعت – بحسب المؤرخ – لعدة مؤثرات، حيث جاءتها هجرة أندلسية كبيرة جلبت معها صناعة الحلويات الصفاقسية المعروفة، وعادة تقطير الزهور أيضا جاء بها الأندلسيون الذين من أشهر عائلاتهم المنيف، قبادو، والشرفي.
وهناك مؤثرات أخرى متوسطية في الأكلات الصفاقسية مثل أكلة «الشرمولة» التي تعتمد على البصل والسمك وتؤكل بعد عيد الفطر وتعتمد على البصل الأحمر. وهناك أيضا أكلة تعتمد على شرب كميات كبيرة من المياه بعد شهر الصوم لاسترجاع ما فقده الجسم، وقد اشتهرت بتسمية «مرقة السمك» وخاصة سمك الصبارس، وفي هذا الإطار أغنية معروفة تقول كلماتها «يا قادم لينا ما تفارق تونسنا البية، إلا ما تجينا وتذوق مريقة صفاقسية»، وحول هذه الأكلة هناك اسطورة تحدث عنها البعض.
وتقول الأسطورة المتعلقة بتأسيس مدينة صفاقس، ان السلطان الأغلبي قدم إلى الموقع الذي توجد به اليوم صفاقس على ساحل البحر وكانت توجد فيه عائلات اكرمت ضيافته بـ»مرقة صبارس»، وهي أكلة تتشكل من المرق وسمك الصبارس، وكرد للجميل قام بتأسيس هذه المدينة. وهناك نص آخر يقول ان السلطان علي باشا قدم إلى صفاقس في زيارة مع جيوشه وألم به مرض شديد فقام أحد الأشخاص بمداواته بمرقة الصبارس وقام واشترط عليه ان لا يخرج من البيت. وتم الشفاء فبنى له الملك علي باشا زاوية ومدرسة ومقام كامل وهو مقام سيدي عمر والسبب هو الوصفة الدوائية من المرقة الصفاقسية المشهورة والتي تؤكل بخبز الشعير.

عاصمة للثقافة العربية

وعن اختيار صفاقس كعاصمة للثقافة العربية لعام 2016 قال محدثنا: بالنسبة لاختيار صفاقس كعاصمة للثقافة العربية لم يكن الأمر اعتباطيا فصفاقس هي مدينة عربية عريقة وفيها معالم عديدة ومنها أهم سور في البلاد العربية محفوظ بأكمله، بخلاف مدن عربية أخرى. وفيها أيضا عديد المعالم التي تؤهل لتصنيف صفاقس كمحمية ثقافية في التراث العالمي لليونيسكو. ولهذا السبب تم اختيارها. كما أنها مدينة العلماء والفنانين وقد انجبت أعلاما على غرار الفنان محمد الجموسي والأديب مصطفى الفارسي والسياسي والمفكر محمد الشرفي، الرجل المستنير، وانجبت العديد من العلماء الافذاذ الذين كانت لهم كلمة سواء في ميدان الأدب أو العلوم الصحيحة أو الشرعية.


ونذكر هنا المفتي الأسبق للديار التونسية محمد مختار السلامي ومؤخرا عبد القادر المهيري، وكذلك العميد يوسف علوان. كما أن أغلب رجال الاقتصاد نجدهم من صفاقس مثل منصور معلى المشهود له بالكفاءة، وفي باب الفلسفة نجد فتحي التريكي الذي حاز على كرسي اليونيسكو للفلسفة.

& لم تكن صدفة ان يتم اختيار صفاقس عاصمة للثقافة العربية لسنة 2016 فهذه المدينة تزخر بالعديد من المعالم الأثرية والثقافية والتاريخية الهامة ولعبت دورا حضاريا هاما في تونس بعلمائها ومصلحيها وأعلامها.
لكن تبقى بعض المؤاخذات بالنسبة ـ إلى الباحث والاكاديمي التونسي عبد الواحد المكني- لاختيار المدينة عاصمة للثقافة العربية ..فعلى الصفاقسية ان يحسنوا تلقف الكرة وعدم الإكثار من الحفلات الغنائية ويضيف قائلا: «وأقول هذا كمثقف ومفكر وجامعي ومسؤول. فالعاصمة الثقافية هي أساس لاستنباط وابتكار مشاريع طويلة الأمد سواء في البنية التحتية الثقافية، كالمسارح والمكتبات وغيرها، أو البنية الفكرية. لذلك أراهن شخصيا على الكتب والمنجزات كإقامة مسرح كبير، أما التركيز على حفلات الغناء والرقص فهو وإن كان ضروريا إلا أنه ليس الأهم. فالثقافة ليست فقط احتفالات والأهم هو بناء المسارح والمشاريع الثقافية المفيدة. ولا بد ان ننظر إلى الثقافة في كليتها وأبعادها وهي ليست فقط مصدحا وغناء، هي الرسم والرقص والكاريكاتور والفلسفة والتاريخ وهي أيضا الفن الشعبي والعودة إلى الماضي والانفتاح على المستقبل والتحاور مع الشعوب». ويرى مكني أيضا انه لا بد لهذه التظاهرة أن تضع صفاقس في مصالحة مع محيطها المحلي وهذا يغيب للأسف في تاريخ المدينة، فهناك بعض التناقضات بين مدينة صفاقس وأريافها وهناك العديد من التونسيين الذين لا يعرفون جيدا صفاقس ويجب تغيير الفكرة العامة المغلوطة عندهم عن الصفاقسية ..فهذه المدينة لا تقل أهمية عن عديد المدن العربية مثل وهران والاسكندرية وصور وصيدا طرابلس الشرق وبعلبك وبنغازي، فالمدن الثانية هامة وليس فقط العواصم