عبدالله العوضي

يبدو أن فرنسا نسيت نفسها تماماً في خضم بعض الحوادث التي صنفت في قائمة الإرهاب المعاصر، والإغراق الشديد في تبعاتها التي لا تقارن بما يقع في سوريا والعراق وتركيا وليبيا واليمن.. الخ.

بلد الحريات الأولى في العالم المتقدم مقارنة بكل الدول التي تشترك معه ذات الثقافة الحضارية، يتخبط يمنة ويسرة في علاج ما يسميه البعض الملابس «ذات الصبغة» الإسلامية، والتي نسميها في ثقافتنا كذلك وليس فقط في إسلامنا المحتشم مقارنة بقطعة «البكيني» التي تساوي ورقة التوت إن لم تصغر عنها.

والتعامل مع أدوات الثقافة الإنسانية، مهما كان مصدرها على أساس أنها أدوات إرهابية أو أصولية أو متطرفة لا يعالج أي جزء من قضية الإرهاب المحورية.
وإذن فما السر في أن غير المسلمات أيضاً مقبلات على شراء هذه الملابس البحرية منذ العام 2004 وبنسبة تقارب 40٪ من إجمالي المشتريات؟!

وليس لهذا علاقة بالأصولية، ولا بالإسلام الذي يريد اليمين المتطرف في الغرب ربطه بالإرهاب، مع أن هذا الربط التعسفي ضار بالغرب قبل الشرق وذلك عندما تضيق مساحة العلمنة أمام ضغوط متطلبات الأمن القومي.

وعندما نتحدث عن فرنسا، نعني أرضاً ثارت من أجل الحرية والعدالة والمساواة التي كانت تحلم بها كل الشعوب الأوروبية بعدما اضطهدت باسم الدين القابع في الكنائس وفي رؤوس القساوسة والبابوات، وقد خرجت بعد التضحيات الجسام من ذلك الجلباب الخانق، فلمَ تراد العودة بفرنسا مرة أخرى إلى ذات الجلباب ولكن بمبررات أخرى كالإرهاب والتطرف والأصولية الدينية.

وأضرب لذلك مثلاً بما حصل في فرنسا ذاتها قبل أعوام قليلة عندما حظر البرلمان لبس النقاب بالنسبة للمسلمات وفرض غرامات مالية على المرأة التي تخالف هذا القانون الذي فرض من أجل منع 2000 منقبة حسب الإحصاءات الفرنسية في دولة يعيش فيها ملايين المسلمين والمسلمات، ومع ذلك قام أحد رجال الأعمال الفرنسيين من المسلمين بتحمل هذه الغرامة عن كل امرأة مسلمة تحافظ على نقابها، فتحول الأمر من عادة ثقافية خرجت بالدين الإسلامي إلى تحدٍّ عقدي أصولي يسميه البعض تطرفاً حتى يصل إلى درجة الإرهاب، وكأن الحجاب لا يختلف عن أي سلاح مضاد للطائرات أو قنبلة يدوية ترهب كل من يراه على رأس المرأة!

وهو علاج أمني سياسي برلماني قاصر، لا يؤدي الغرض المطلوب من المنع، فالثقافة في أي شعب لا تصادرها القوانين التي تشرع بدوافع أمنية، وقد فعل الاتحاد السوفييتي ذلك طوال 70 عاماً من الحكم القمعي لشعوبه، وبعد أن انكشف الغطاء عن الشيوعية وسقط الاتحاد السوفييتي ظهر الحجاب والنقاب أو البرقع واللحية الطويلة وغيرها من أدوات «الإرهاب» في زمن ذلك الاتحاد السوفييتي الغابر الذي تفسخ إلى دول يواجه كثير من المصاعب والمتاعب، ولم تذهب تلك الأدوات سدى بل نراها اليوم في عقر دار روسيا نفسها.

فلماذا تريد فرنسا أن تشذ عن ذلك وهي التي أشرقت في سمائها شموس الحرية التي أبهرت رفاعة الطهطاوي عندما ألّف سفره العظيم «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وعندما زار الشيخ محمد عبده باريس أيضاً قال قولته الشهيرة «رأيت إسلاماً ولم أرَ مسلمين..».

فما الذي تغير في باريس التي لا زالت علمانية، إلا إذا قررت تدريجياً التخلي عن هذا النهج بأصولية مضادة لن تصمد أمام الإرهاب المضاد كذلك، مع اختلاف في النسب والدرجات، بلا مقارنة عادلة في النتائج التي نراها اليوم في أطراف الكرة الأرضية، فخطاب اليمين المتطرف لن يستطيع إنقاذ باريس من نفسها.

كنا في جلسة ودية مع أحد كبار المسؤولين الأميركان وكان الحديث يدور آنذاك حول «النقاب» و«الفوزفولا» و«طالبان» والجامع بينها عامل واحد الأصولية والإرهاب والتطرف وكل مترادفات هذه الفوضى في الإجراءات الأمنية في الغرب أولاً تجاه ما يدور من حوله، ومن قبل حول العالم العربي والإسلامي المعني بالدرجة الأولى بعلاج الأمر أيضاً بعيداً عن الحل الأمني الأحادي.

وقلت لهذا المسؤول الكبير هذه ثقافات أجيال وليست ولادة اللحظة «الطالبانية» فتغيير الثقافات والعقليات وطرق تفكير الناس يحتاج إلى عقود طوال، بل قرون أطول، مهما قامت القاذفات بهدم جبال «هلمند» في أفغانستان، فإن ثقافة «الحمار» الدبابة لديهم قد تصير أقوى من راجمات الصواريخ، لأن عقلية هؤلاء أصعب من جبال «هلمند» ذاتها.

فالقرارات الفوقية أمنية كانت أو سياسية لا تملك القدرة على تغيير عقليات البشر، فهم خلقوا مختلفين منذ الأزل لاختلاف ثقافات الشعوب وليس الأديان فحسب، فالعامل الديني في جميع الأحوال عامل واحد لا يقاس عليه ظهور الأصوليات في جميع الأديان.

لقد سألت امرأة منقبة في أحد المؤتمرات لماذا دخلت من باب الفندق منقبة وعندما وصلت إلى قاعة المؤتمر رفعت النقاب فأجابت: هذا طلب زوجي، أما أنا فلا أحب النقاب ولكن أيضاً لا أستطيع مخالفة أوامر زوجي! أين الدين أو الإسلام في الموضوع؟! بعد هذا كيف يمكن للفرنسيين الاستماع لوزير الداخلية: «خطر البوركيني يجب ألا يؤدي إلى عداء بين الفرنسيين»؟!