&عادل درويش&

&&يبقى حزب استقلال المملكة المتحدة ظاهرة سياسية سيقف عندها المؤرخون كحزب سريع النمو، عبّر عن غضب الأغلبية الصامتة، ونجح بأبسط الإمكانيات في هزيمة عمالقة بإمكانيات خرافية، رغم محاولات المؤسسة السياسية الحاكمة والصحافة (عن كسل أو عن فساد أخلاقي) اغتيال الحزب معنويًا لدى الرأي العام بالنمطية السلبية (stereotyping) بادعاء أنه يميني متطرف معادٍ للمرأة والأقليات.

تدفق الكاميرات والميكروفونات على بورنموث الساحلية، وتركيز الصحافة أضواءها على حزب (بدلاً من تجاهل المؤتمر كما اعتادت الصحافة) يعود لعاملين ارتعدت لهما فرائص المؤسسة السياسية: من ناحية الأصوات في انتخابات 2015 البرلمانية احتل الحزب المكان الثالث كميًا (ثلاثة ملايين و800 ألف صوت) بعد المحافظين والعمال، وتقدم على أحزاب أقدم، كالديمقراطيين الأحرار، والخضر.

ثانيًا هزم الحزب تحالفًا دوليًا من الاتحاد الأوروبي وصحافة مؤثرة كـ«بي بي سي»، وبيوت المال والبنوك، ليقنع أكثر من 17 مليونًا ونصف المليون ناخب بالتصويت باستقلال المملكة المتحدة عن بروكسل، محققًا الحلم الذي تأسس من أجله منذ 25 عامًا.

هل يحال الحزب إلى المعاش بتحقيق الغرض من تأسيسه؟

سؤال يتردد حول أحزاب القضية الواحدة، كالحركات النسائية وأحزاب البيئة.

أحزاب تحمل اسم التحرير أو الاستقلال، تأسست في بلدان قبل أن تحصل على استقلالها بعشرات السنين، لكنها بقيت بتطوير برامجها كأوعية تحتوي طموح وأحلام وشكاوى جماهير أكثر اتساعًا من البرنامج الأصلي.

يوم الجمعة، انتخب حزب استقلال المملكة المتحدة أول سيدة لتتزعمه، دايان جيميس، وهي عضو في البرلمان الأوروبي ضمن 22 نائبًا يقودهم زعيمه نايجل فاراج (صاحب الكاريزما التي يسيل لها لعاب الصحافيين وتغمز لها عدسات الكاميرات) مفجرين شرارات حرائق عبر بلدان شرق ووسط أوروبا لاستعادة برلماناتها القومية السيادة من بروكسل.

وهذا بدوره يطرح سؤالاً عن شخصية الزعيم الكاريزمية التي تضع الحزب في مكانة تاريخية، هل يمكن لزعيم جديد أن يعوضها؟

ولا يدخل زعيم، «جنتلمان» أو سيدة، رقم 10 داونينغ ستريت، أو تزعم حزب المحافظين، إلا ويقارن بزعيمين لن ينساهما التاريخ: السير ونستون تشرشل، والليدي الحديدية مارغريت ثاتشر، ومهما توافد على زعامة حزب المؤتمر ورئاسة الهند من ساسة، فلا مهرب من المقارنة بالمهاتما غاندي، وجواهر لال نهرو.

وهو المصير الذي يواجه دايان جيميس التي تخلف فاراج بشخصيته وصورته (الكاريكاتيرية أحيانًا، والشعبية بين الناخبين، كالرجل الإنجليزي العادي الذي يثور ضد ظلم وتسلط البيروقراطية والحكومة الظالمة)، التي أصبحت وقودًا صاروخيًا دفع الحزب لكسب السباق، في تصويت الخروج من الاتحاد الأوروبي، واكتساح مقاعد المجالس المحلية في مناطق الطبقات العاملة.

دايان وعدت بأن تقود الحزب، ليصبح هو المعارضة الحقيقية لحكومة المحافظين، خصوصًا أن حزب العمال، المعارضة الرسمية، منقسم، وفي حالة يُرثى لها انتخابيًا، وهو أيضًا يعود إلى فقدان زعيمه جيرمي كوربين الكاريزما السياسية لشخصيات كثاتشر، أو الزعيم العمالي الأسبق توني بلير أو فاراج.

لكن هناك فارقًا؛ الإمكانيات البشرية للحزب للنشاط على مستوى الشارع، وهو ما يضع المحافظين والعمال في قمة الجبال وبقية الأحزاب في أسفل الوادي.

فنجاح حزب استقلال المملكة في الاستفتاء، ممكن، لأنه استفتاء على المستوى القومي، لكن 4 ملايين صوت انتخابي أعطته مقعدًا برلمانيًا واحدًا، بينما فازت أحزاب بنصف هذا العدد بما بين 8 و40 مقعدًا.

النظام الانتخابي البرلماني بالدوائر لا القوائم النسبية، وبلا أصوات في الدائرة الانتخابية، أحيانًا بضع عشرات للتفوق على المنافسين، لا قيمة لملايين الأصوات على مستوى المملكة.

وهنا تكمن أهمية المؤتمر السنوي للحزب، حيث تشارك القواعد الشعبية واللجان من دوائر بريطانيا الـ650 يناقشون هموم الناخب على مستوى الدائرة، وكيف تترجم إلى برنامج انتخابي على المستوى القومي، ويتابعه الناخب عبر نشاط نواب الحزب في البرلمان.

مؤتمر الاستقلال كان الأول في موسم مؤتمرات الأحزاب السياسية من منتصف سبتمبر (أيلول)، وحتى الأسبوع الأول من أكتوبر (تشرين الأول) ويرفع البرلمان جلساته (هذه العام الخميس 15 سبتمبر) لموسم المؤتمرات، فبلا أحزاب لا يوجد البرلمان.

الأحزاب في نشأتها الأولى كانت تمثل مصالح مجموعات أو طبقات. فالعمال مثلا انبثق عن حركة عمالية تطالب بحقوقها لتتوازن بمصالح أصحاب الأعمال وأصحاب الثروة، والشق الآخر كانت التيارات الاشتراكية من مثقفي ما يُعرف بـ«اليسار»، وهم تقليديًا أبناء الأثرياء والطبقات الميسورة كالجمعية الفابية مثلا، لأن التعليم قبل مائة عام لم يكن بمقدور الفقراء، فتطوع أبناء الطبقات العليا والمتوسطة بتمثيلهم برلمانيًا. شيزوفرانيا سياجتماعية واضحة بين قيادات الحزب (المثقفين الحنجوريين) والطبقة العاملة التي صوتت في استفتاء الاتحاد الأوروبي لبرنامج حزب الاستقلال (المناقض لبرنامج العمال).

أحزاب الموضة الجديدة، كالخضر والبيئة وحقوق الحيوان، وأحزاب الأقليات والحركات النسوية أذابت تعريفات العلوم السياسية، فلم تعد تمثل طبقة أو مجموعة مصالح اقتصادية، كما رأينا في جدل استفتاء الاتحاد الأوروبي.

تقسيمات اليمين واليسار لم يعد لها معنى بصعود تيارات لا تزال الصحافة العربية تسميها بسذاجة «اليمين المتطرف»، لكنها تعبر عن تيارات واسعة ترفض إدارة صفوة من أبناء الطبقات الميسورة ذات التعليم العالي شؤون الناس البسطاء، الذين ساءت أحوالهم الاقتصادية والاجتماعية، رغم وعود الأحزاب التقليدية.

الثورة التي تفجرت في بريطانيا بتصويت الخروج من الاتحاد الأوروبي ستنعكس في مؤتمرات الأحزاب، وهي فرصة للصحافة المصرية والعربية لأن تنقل منها وعنها، لمساعدة قرائها ومشاهديها في البلدان الساعية للإصلاح والديمقراطية. لكن الصحافة العربية ينحصر تركيزها دائمًا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية أو اللوبي (الوهمي) المناصر لإسرائيل.

ومساعدة للصحافة العربية لتوجيه مراسليها للبحث في كواليس المؤتمرات الحزبية في المشهد السياسي الحالي، فليتنبهوا للتالي:

كل حزب يبحث عن توليفة سحرية لاحتلال «أرض الوسط» التي يسكنها معظم الناخبين.

طليعة التقدم لأرض الوسط هي برنامج انتخابي (سهل للأحزاب ذات تجارب الفعل قبل القول، كأحزاب مارست الحكم في الوقت المعاصر كالمحافظين والعمال والحزب القومي الاسكوتلندي، وصعب للأحزاب الصغيرة) يطمئن دافع الضرائب إلى التزام الحزب بحرية السوق وقوانين تحفز النمو وتخفض الضرائب وتدعم طموح الفرد وتحريره من القيود ومن تسلط بيروقراطية الدولة (أي أرضية يمين الوسط كالمحافظين)، وضرورة أن يمزج البرنامج ذلك بوعود العدالة الاجتماعية وإصلاح الخدمات المقدمة للطبقات الأقل حظًا. نجاح التوليفة للفوز في انتخابات الديمقراطيات البرلمانية الكلاسيكية يعتمد على وجود ما يكفي من النشطاء لمناقشة البرنامج مع الناخب على عتبات الديار، وفي الأسواق العامة في الدوائر الانتخابية الـ650، وليس عبر شاشات التلفزيون التي تصلح للنظام الجمهوري لا للنظام البرلماني.

&&