جمال سند السويدي

بعد أن تحدثت خلال العامين الماضيين عبر صفحات جريدة «الاتحاد» الغرّاء عن «شخصيات غيرت التاريخ» و«أحداث غيرت التاريخ»، أخصص سلسلة مقالات هذا العام عن «دولة الإمارات العربية المتحدة حينما تصنع التاريخ»، بإنجازاتها ونجاحاتها ومبادراتها الرائدة التي يتحدث عنها القاصي والداني وتحوز إعجاب واحترام العالم كله في الشرق والغرب، وتتحول إلى أيقونات لقوة الإرادة وإرادة التفوق، تحت قيادة صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله.

لقد كانت دولة الإمارات العربية المتحدة حاضرة برموزها وإنجازاتها الحضارية في كل ما أكتب أو أقرأ أو أفكر على مدى مسيرتي العلمية والعملية، لكن هذه السلسلة من المقالات لها طابعها الخاص لأنها سوف تركز على جانب صنع التاريخ في كل ما حققته الدولة وتحققه وتخطط لتحقيقه، والمبادرات والسياسات التي اعتمدتها وتحولت إلى نماذج رائدة وملهمة يسعى الآخرون إلى السير على خطاها والاستفادة منها، ودلالات كل ذلك ومعانيه التي تتجاوز الإطار المحلي نحو الأطر الخليجية والعربية والإقليمية والدولية.

لن أتناول في هذه السلسلة من المقالات كل مظاهر صنع دولة الإمارات العربية المتحدة للتاريخ في المجالات المختلفة، فهي أكثر من أن أحصيها أو يحصيها غيري، فضلاً عن متابعتها أو مواكبتها لأنها متجددة ومتوالدة على الدوام، وإنما سأجتهد في تسليط الضوء على بعض المبادرات والسياسات والمشروعات التي أرى أهمية البحث المعمّق فيها وتعريف الأجيال الحالية والمقبلة بجوانب ربما لم يتم الالتفات إليها أو الاهتمام بها بالشكل الكافي، حتى تعرِّف هذه الأجيال إلى مواطن العظمة في بلدها وكيف أنه يصنع التاريخ بحق في منطقته وعالمه.

ولكن ماذا أقصد بصنع الإمارات للتاريخ؟ وما المعايير التي أعتمد عليها في هذه المقالات للقول إن هذه المبادرة أو هذه الخطوة أو تلك تنطوي على صناعة للتاريخ؟

وفي الإجابة عن هذا السؤال يمكنني أن أطرح على القارئ الكريم العديد من المعايير التي لا يمكن أن يجادل أحد في أن دولة الإمارات العربية المتحدة صنعت وتصنع في ضوئها ومن خلالها التاريخ وكتبت لنفسها مجداً باقياً في صفحاته. أول هذه المعايير هو المبادرة بما تعنيه من اتخاذ خطوات غير مسبوقة تعبر عن رؤى جديدة ومبدعة وفكر خلاق ومتجدد، فعلى سبيل المثال لا شك في أن مبادرات الابتكار والحكومة الذكية التي تبناها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، ومبادرة التربية الأخلاقية في المدارس التي أعلنها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، ومبادرات الطاقة المتجددة، وإنشاء وزارة دولة للسعادة وغيرها، كلها خطوات سبقت بها الإمارات الجميع في المنطقة وعبرت عن نزوع إلى الريادة والتفرد لا تخطئه عين الباحث والمدقق، فضلاً عن أنها انطوت على نقلات نوعية غير مسبوقة.

المعيار الثاني هو أن تأثير هذه المبادرات أو الخطوات لا يتوقف على الداخل وإنما يمتد إلى الأطر الإقليمية والدولية، ومن ذلك على سبيل المثال مبادرة «سقيا الإمارات» لتوفير مياه الشرب لخمسة ملايين محتاج إليها في العالم، و«جائزة الشيخ زايد للكتاب» التي أعادت الاعتبار إلى المؤلف والباحث الجاد ليس في الإمارات وحدها وإنما في المنطقة العربية والعالم كله، ومبادرات العمل الإنساني التي استطاعت الإمارات من خلالها تغيير مفهوم العمل الإنساني على المستوى العالمي، وغير ذلك الكثير مما لا يتيح المجال ذكره.

المعيار الثالث هو أن الإمارات قد غدت نموذجاً يتم السعي إلى تقليده والسير على هداه، ومن ثم أصبحت قوة تغيير إيجابي في منطقتها، وهذا ما يمكن تلمّسه بوضوح في قضايا تمكين المرأة والشباب والتعليم والابتكار وجعل المواطن محوراً أساسياً للتنمية وغيرها من القضايا التي يُنظر إلى الإمارات على أنها حققت فيها ما لم تستطع دول المنطقة الأخرى تحقيقه.

المعيار الرابع هو تعزيز مفهوم التفكير المستقبلي، حيث تندرج الكثير من المبادرات الإماراتية الرائدة في المجالات المختلفة في إطار الاستعداد المبكر لمرحلة ما بعد النفط وهو التوجه الذي عبر عنه بوضوح صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، في كلمته التاريخية أمام القمة الحكومية التي عُقدت في دبي في عام 2015 بقوله: «سيأتي وقت بعد خمسين سنة ونحن نحمل آخر برميل نفط للتصدير، وسيأتي السؤال: هل سنحزن وقتها؟ إذا كان الاستثمار اليوم في مواردنا البشرية صحيحاً فأنا أراهن أننا سنحتفل بتلك اللحظة».

المعيار الخامس هو طبيعة النظرة إلى فكرة التقدم ذاتها، فلم تستسلم الإمارات منذ نشأتها لفكرة احتكار التقدم من مجموعة من الدول أو المجتمعات، وإنما آمنت بأن التقدم لمن يمتلك مقوماته ويعمل بأسبابه ويسير بوعي في دروبه ومساراته، وهذا جعلها تتطلع باستمرار إلى المراكز الأولى في مجال التنمية ليس بالمعايير العربية أو الخليجية فقط وإنما بالمعايير العالمية أيضاً.

المعيار السادس هو طبيعة التعامل مع فكرة الخصوصيات والتقاليد والعادات، فلم تنظر إليها دولة الإمارات العربية المتحدة على أنها عائق أمام انطلاقها نحو الأمام واعتبرت أن التعارض بين الأصالة والمعاصرة هو تعارض مفتعل وغير حقيقي، وأن التوفيق بين الجانبين ممكن ومتاح لمن يريد أن يخرج من الثنائيات الزائفة التي كبلت الحداثة في كثير من المجتمعات العربية والإسلامية، وقد نجحت الإمارات بالفعل في التوفيق بين تقاليدها ومقتضيات التحديث من دون أن تتخلى عن هويتها أو تفقد خصوصياتها، ومن ثم أصبحت مصدر إلهام لكل المجتمعات التي ما زالت تعاني ثنائية الأصالة والمعاصرة وغير قادرة على تجاوزها أو الفكاك منها والتخفف من أثقالها. وفي الحقيقة إن تجاوز الإمارات لهذه الثنائية وتخطيها بنجاح هو جزء من نجاحها الأكبر في تقديم إجابات شافية لأسئلة النهضة المطروحة في منطقتنا منذ القرن التاسع عشر وتدور حول الموقف من التراث ودور المرأة وموقع الدين في المجتمع والنظرة إلى الآخر المختلف دينياً وعرقياً وثقافياً وغيرها من القضايا الأخرى التي ما زالت تثير الجدل والخلاف وأحياناً تُسيل الدم في مجتمعات عربية وإسلامية كثيرة وتقف حجر عثرة أمام الانخراط الحقيقي لهذه المجتمعات في مسيرة الحداثة الإنسانية.

المعيار السابع هو أن الإمارات قد استطاعت أن تحافظ على استقرارها في منطقة تعج بالصراعات والتوترات الدينية والطائفية والعرقية والسياسية على الرغم من وجود أكثر من مئتي جنسية فيها، وأن تحافظ على انفتاحها ووسطيتها في منطقة تعاني التعصب والتطرف والكراهية. وهذا جعل منها، أي من دولة الإمارات العربية المتحدة، بقعة ضوء ومصدر أمل ودليلاً على أن التطرف والإرهاب والعنف والتعصب ليست قدراً مكتوباً أو حتمية تاريخية في المنطقة وإنما يمكن الفكاك منها والخروج من شرنقتها إلى أفق أوسع وأرحب من الاعتدال وقبول الآخر، لكن بشرط امتلاك الإرادة ومواجهة المشكلات بشجاعة من دون إخفاء أو مواربة.

وإذا أردتُ أن أسترسل في ذكر المزيد من المعايير التي اعتمدت عليها في المبادرات التي اخترتها للحديث عن صنع دولة الإمارات العربية المتحدة للتاريخ من خلالها، فإنني أحتاج إلى مئات بل آلاف الصفحات، لأن وطني الحبيب لم يكفّ عن صنع التاريخ وتحقيق المعجزات منذ نشأته، ويمضي واثقاً على هذا الطريق بفكر قيادته وإرادة شعبه.

هناك مجتمعات ارتضت لنفسها الوقوف على هامش التاريخ تداري فشلها واستسلامها لواقع التأخر والتخلف الذي تعيش فيه باجترار أمجاد تاريخية زائلة وإلقاء اللوم على «المؤامرات الخارجية» التي تعيق تقدمها وتقف في طريق نجاحها، لا تمتلك إرادة المبادرة والإبداع وتفتقر إلى الثقة بقدراتها وإمكاناتها المادية والحضارية، وهناك مجتمعات تصنع التاريخ وتنحت اسمها بقوة في صفحاته بمنجزاتها المتفردة، ودولة الإمارات العربية المتحدة من هذا الصنف الأخير، فهي في القلب من تاريخ المنطقة والعالم، وهي الدولة التي حباها الله بقيادة لا تعرف المستحيل ولا تضع لطموحاتها سقوفاً أو حدوداً.

أخيراً فإنني وأنا أكتب عن «دولة الإمارات العربية المتحدة حينما تصنع التاريخ»، فإنني لا أكتب عن شأن إماراتي محلي فقط، وإنما عن تجربة عربية مضيئة يفخر بها العالم العربي كله من المحيط إلى الخليج ويتخذها قدوة له، لأنها تؤكد أن العرب قادرون على الحضور القوي في مضمار التقدم العالمي وأنهم ليسوا عبئاً على الحضارة الحديثة كما يزعم أعداؤهم.