أحمد يوسف أحمد

لا شك أن اتهامات أجهزة الاستخبارات الأميركية لروسيا ولرئيسها شخصياً بالتورط في عمليات قرصنة إلكترونية استهدفت الحملة الديمقراطية للانتخابات الرئاسية، تنطوي على مسائل بالغة الخطورة بالنسبة للأمن القومي للدول، ناهيك عن أن تكون مرتبطة بدولة عظمى كالولايات المتحدة والأمن الدولي بصفة عامة. وقد تطور الموقف من هذه الاتهامات من التشكيك في صحتها إلى التسليم بها، وإن كان هذا لا يعني القبول بلا قيد ولا شرط بكل تفاصيلها، ففي البداية استخف الرئيس المنتخب بها وعلق عليها قائلا إن مصدرها هو ذاته مصدر الادعاءات التي ثبت زيفها بامتلاك العراق أسلحة دمار شامل لتبرير الغزو الأميركي له، لكن ممثلي أجهزة الاستخبارات الأميركية ثابروا على التمسك باتهاماتهم وخلال مثولهم أمام لجنة الخدمات المسلحة بمجلس الشيوخ في الخامس من يناير الجاري حذّر مدير الاستخبارات الوطنية ومدير الأمن الإلكتروني ونائب وزير الدفاع، من الدور المتنامي لروسيا في مجال القرصنة الإلكترونية والتجسس، وقال مدير الأمن الإلكتروني إن عدد الجواسيس الروس في الولايات المتحدة اليوم أكبر منه خلال الحرب الباردة، ونتيجة هذه المثابرة بدأت المواقف تتبدل من هذه الاتهامات بدرجات مختلفة. فقد سلم بها الرئيس أوباما واتخذ قرار طرد عشرات الدبلوماسيين الروس، وقبلها آخرون دون مبالغة في تأثيرها على نتيجة الانتخابات، كما فعل رئيس مجلس النواب الذي رفض توجيه الانتقاد للرئيس المنتخب وقال إن موقفه من هذه القضية محق في ظل محاولة البعض استخدامها للتشكيك في صدقية انتخابه، وزاد بالقول إن القرصنة الروسية لم تؤثر في نتيجة الانتخابات، لكن روسيا لابد أن تُعاقب على ما ارتكبته.

ويوم السبت الماضي أذيع ملخص لتقرير أعدته أجهزة الاستخبارات الأميركية أكد أن الرئيس الروسي أمر في 2016 بشن حملة لاستهداف انتخابات الرئاسة الأميركية بهدف تقويض الإيمان الشعبي بالعملية الديمقراطية الأميركية وتشويه سمعة هيلاري كلينتون والتأثير سلباً على إمكان انتخابها للرئاسة، وذلك عن طريق اختراق رسائل بريد إلكتروني تابعة للحزب الديمقراطي بغرض إيذائها، وقال التقرير إن الوكالات الاستخبارية واثقة تماماً من أن الاستخبارات العسكرية الروسية استخدمت وسطاء من أمثال ويكيليكس لنشر هذه الرسائل الإلكترونية التي جمعتها من اللجنة الوطنية الديمقراطية ومن شخصيات بارزة في الحزب الديمقراطي.

وقد نفت روسيا هذه الاتهامات نفياً قاطعاً، وظل ترامب يرفض مزاعم القرصنة الروسية واصفاً إياها بأنها حملة سياسية من خصومه حتى اجتمع مع مدير الاستخبارات الوطنية ومدير وكالة الاستخبارات المركزية ومدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، وعقب الاجتماع صرح بأنه يحترم العمل الذي أنجزه المجمع الاستخباراتي الأميركي والخدمة التي أسداها، دون أن يشير إلى روسيا، كما قلل -وهذا مفهوم- من تأثير عمليات القرصنة على الانتخابات، لأن القول بغير ذلك يلقي بظلال من اللاشرعية على الرئيس نفسه، وتبقى ثلاث ملاحظات تنبغي الإشارة إليها:

الملاحظة الأولى أن الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة تميزت بأن الأجهزة الاستخباراتية الأميركية كانت حاضرة فيها بما يخرج عن مألوف مجريات هذه الانتخابات، ونذكر في هذا السياق أن مكتب التحقيقات الفيدرالي جدد في وقت قاتل قبيل إجراء الانتخابات إثارة مشكلة استخدام هيلاري بريدها الإلكتروني الشخصي في تسيير أعمالها كوزيرة للخارجية، واعتبرت هيلاري هذا العمل واحداً من أسباب خسارتها الانتخابات، فكأن الداخل ممثلاً في مكتب التحقيقات الفيدرالي والخارج ممثلاً في القرصنة الروسية عملا سوياً ضدها.

والملاحظة الثانية أن موجز التقرير الذي أُذيع لم يتضمن أي أدلة حول الدور المنسوب للرئيس الروسي، وإلى أن يحدث هذا سوف يبقى التشكيك قائماً في جدية الاتهامات، وإن كان تغير موقف ترامب بعد اجتماعه بمسؤولي الأجهزة الاستخبارية الأميركية يُضفي صدقية ما عليها.

والملاحظة الأخيرة تتعلق بالتوقيت لأن التقرير يشير إلى أن عمليات القرصنة كانت مبرمجة على الأقل في سنة 2016، والسؤال أين كانت الأجهزة الاستخبارية طيلة هذا العام وكيف كان موقفها من هذه العمليات؟ وهل من قبيل حسن الأداء ألا يُذاع حرف عنها إلا بعد أن تتم الانتخابات وتُعلن نتائجها؟ وما دلالة هذا كله بالنسبة لأمن الدولة الأقوى في العالم والأمن العالمي عامة؟