سليم نصار

يوم الثلثاء الماضي، عاد الرئيس الأميركي باراك أوباما الى شيكاغو، معقله السياسي، وثالث كبرى مدن الولايات المتحدة. وألقى خطاب الوداع في مركز «ماكورماك للمؤتمرات»، شاكراً سكان المدينة التي انطلق منها على تأييدهم، واعداً بأن يكون الى جانبهم كمواطن بعد أن أمضى ثماني سنوات في واشنطن.

في اليوم التالي، عقد الرئيس المنتخب دونالد ترامب مؤتمراً صحافياً هو الأول منذ انتخابه، حدد فيه رؤيته المستقبلية للبلاد التي وعد باسترجاع عظمتها الضائعة.

وكان من الطبيعي أن تتساءل وسائل الإعلام عن الدور الذي سيلعبه الرئيس الديموقراطي أوباما، خصوصاً أنه لم يكمل الـ55 من عمره، في حين تعدى منافسه الجمهوري السبعين.

بين الأولويات التي أعلن عنها قبل سنة من مغادرته الحكم، كان إصراره على إنشاء مكتبة ضخمة تحمل اسمه في شيكاغو تحت عنوان: «مركز أوباما الرئاسي». وبما أنه لم يحصل على دعم بأكثر من خمسة ملايين ونصف مليون دولار، فقد نصحه أصدقاؤه بألا يغامر في إطلاق مشروع قُدِّرَت تكاليفه بنحو بليون دولار.

والسبب، كما كتب المعلق غاري سيلفرمان، أن أوباما اختار للمركز أعقد الأجهزة الإلكترونية بحيث يستميل الأجيال الجديدة الى حب المطالعة التي شُغِفَ بها منذ صغره. وفي حال العجز عن تأمين هذا المبلغ الضخم، فإنه سيكتفي بالمتوافر من التبرعات لوضع الحجر الأساسي للمشروع.

يقول أوباما أنه لا يهتم بتأمين ثروة كبرى، قدر اهتمامه باستثمار الوقت المنتج من عمره. وهو يعرف أن الكونغرس أصدر قانوناً سنة 1958، يوفر لكل رئيس سابق مرتباً سنوياً يصل الى مليونين ونصف مليون دولار. وهو، في رأيه، مبلغ كافٍ لتسديد النفقات المطلوبة من عائلة الرئيس. وتؤكد زوجته ميشيل أنها ستوفر له الجو المنزلي الملائم لكتابة مذكراته التي تعاقد على إصدارها مع دار «راندوم هاوس». ومع أنها ترفض الإعلان عن المبلغ الذي سيقبضه زوجها، إلا أنها حريصة على القول أنه أعلى رقم دُفِع لأي مذكرات نشرها رئيس من قبله. هذا مع العلم أن أوباما قبض من شركات النشر 15 مليوناً ونصف مليون دولار، مقابل كتبه الثلاثة: «أحلام أبي» و»آمال جريئة» ومؤلف ثالث للأطفال.

قبل أن ينتقل باراك أوباما الى مستقبل مجهول، لا بد من مراجعة سيرته السياسية، خصوصاً أن مشاكل الشرق الأوسط استحوذت على قسط وافر من اهتماماته. لكن إصرار الإسرائيليين على تغيير المناطق الفلسطينية من طريق نشر المستوطنات في القدس الشرقية والضفة الغربية، منعه من الإقدام على أي تدخل استفزازي. كذلك، حذّره مستشاروه من إغضاب اللوبي اليهودي، القادر على تعطيل عملية تجديد ولايته الثانية. أي الولاية التي أولاها أهمية خاصة كونها تمهد أمامه طريق الانفتاح على جارته القريبة كوبا... وتعينه على التوصل الى اتفاق حول المسألة النووية الإيرانية.

ويُستدَل من تاريخ علاقته مع منظمة «إيباك» - أقوى منظمات اللوبي اليهودي في امأركا - أن أوباما كان يدرك أهمية الدور الذي تلعبه هذه المنظمة، لذلك حرص على اختيار منبرها مدخلاً لإعلان نيته الترشح لمنصب الرئاسة عن الحزب الديموقراطي. وكان دليله على المؤتمر السنوي عضو إدارة اللوبي من شيكاغو صديق يُدعى د. روزنبرغ. وقد تعمّد هذا الصديق أن يجمع له جمهوراً مؤلفاً من سبعة آلاف شخصية يهودية، بينها مئات الموظفين الإسرائيليين في وزارة الخارجية ومراكز الأبحاث. إضافة الى ستين شيخاً من أصل مئة و240 نائباً من أصل 435.

ومع أن يهود شيكاغو يُعتبرون من أكثر الأميركيين تعاطفاً مع مرشح الحزب الديموقراطي، إلا أن أوباما كان يتحلى بمزايا فريدة لا يملكها سواه. فهو، وفق سجله في الكونغرس، يتفوق على أي مرشح آخر بفن الخطابة وسهولة اجتذاب الجماهير، الأمر الذي يوفر له حظ النجاح. وهو في حال فوزه، يعبّد الطريق أمام المرشح اليهودي الذي حذر المجتهدون الأوائل من أخطار اضطهاده كرئيس للجمهورية. والدليل على ذلك، أن وزير المالية في عهد روزفلت مورغانتو بقي في الموقع الثاني، مثله مثل هنري كيسنجر في عهد نيكسون ومادلين أولبرايت في عهد جورج دبليو بوش. ومعنى هذا أن دخول يهودي الى البيت الأبيض لن يكون موضع استغراب بعد دخول أوباما المرشح الأسود.

عندما ألقى أوباما خطابه أمام «إيباك»، حاول تبديد كل رواسب الحذر والارتياب ضده. لذلك، بدأ الكلام باسترجاع حكاية أول يهودي قابله وهو في الحادية عشرة من عمره. وأكمل: أنا ترعرعت من دون جذور. لكنني تعلمت قيمة الوطن من هذا اليهودي الذي حدثني عن جذوره اليهودية - الصهيونية وارتباطها بإسرائيل.

ولما وصل الى الجزء الذي يعدد فيه تعهداته لإسرائيل، قال: عندما أصبح رئيساً لن أساوم على أمن إسرائيل. وسأحافظ على تفوقها النوعي، مع الحفاظ على خطة المبيعات للسنوات العشر المقبلة بقيمة 30 بليون دولار، وسأمدها بمنظومة دفاعية مضادة للصواريخ وفقاً لمعايير دول حلف الأطلسي. وسأعمل من اليوم الأول في البيت الأبيض على دفع عملية السلام مع الفلسطينيين ومع سورية. وسأعمل على عزل «حماس»، وسأتخذ كل التدابير لمنع إيران من الحصول على السلاح النووي. وسأحرص على أن تبقى القدس عاصمتها الموحدة الى الأبد.

صائب عريقات، كبير المفاوضين الفلسطينيين وأمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، شن هجوماً عنيفاً عقب نشر الخطاب، اتهم فيه أوباما بالنفاق والتنكر للمبادئ التي يزعم أنه سيحافظ عليها، مثل حفاظ مَثله الأعلى أبراهام لينكولن على مبادئه وشعاراته.

وفي العدد الخاص الذي أصدرته مجلة «تايم» عن أوباما، يعترف الرئيس بأن أبراهام لينكولن كان مثله الأعلى لأكثر من سبب: أولاً - كان عمره 52 سنة عندما تولى الحكم. ثانياً - توج إنجازاته بتوقيع وثيقة تحرير العبيد. ثالثاً - فرض اتحاد الولايات بالقوة، الأمر الذي دفع أحد المهووسين الى اغتياله بعد خمسة أيام من إعادة انتخابه.

في بداية ولايته الأولى، حرص أوباما على زيارة تركيا ومصر، مدشناً بتلك الخطوة عهداً من التعاون يفضي الى إنشاء حلف سنّي واسع يضمن استقرار المنطقة في مواجهة التهديد الإيراني. وقد اتخذ تلك المبادرة عقب قراره القاضي بسحب القوات الأميركية عن الجبهة العراقية. واللافت حقاً، أن أوباما تراجع عن تلك المبادرة ليفسح المجال أمام مبادرة عكسية طرحها الرئيس حسن روحاني وأثمرت اتفاق جنيف.

حقيقة الأمر أن الفريقين كانا مستعدين لإظهار بعض المرونة حيال مواقفهما المتشددة. وقد أنتجت تلك المرونة اعترافاً أميركياً بضرورة مشاركة إيران في رسم مستقبل المنطقة. علماً أن دول مجلس التعاون الخليجي اعترضت على الحل الذي اختاره أوباما، كونه أعطى للأقلية دوراً حرمه على الأكثرية العددية في المنطقة.

وهنا يبرز سؤال مهم يتمحور حول التغيير العميق الذي طرأ على سياسة أوباما الخارجية.

بعض المحللين يرجع ذلك التبدل الى الشعور بالاكتفاء الذاتي، واستقلالية الولايات المتحدة في إنتاج كميات من النفط تغنيها عن الاعتماد على السعودية. في حين يعزو آخرون ذلك التغيير الطارئ الى تأثير مستشاره للشؤون الدينية الهندي الأصل فريد زكريا. ذلك أنه أقنعه بأن اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 في نيويورك وواشنطن، ارتكبها أصوليون إسلاميون ينتمون الى العقيدة الوهابية.

أما السبب الثالث والأهم، فيرجع الى التداعيات التي تركتها ثورات «الربيع العربي» على الأنظمة المترهلة في المنطقة، وعلى تفكير أوباما بالنسبة الى أدوار حكامها.

ويقتضي هذا الاستنتاج العودة الى تلك الفترة الحرجة، وهذه بعض تفاصيلها:

يوم الثلثاء الموافق أول شباط (فبراير) من سنة 2011، اتصل أوباما بالرئيس المصري حسني مبارك طالباً منه الاستجابة لمطالب المتظاهرين في «ميدان التحرير» بالقاهرة. ورد عليه مبارك بتجاهل سؤاله، وإشعاره بأن أحداث الشغب لا تجوز معالجتها بهذه السرعة.

في مواجهة هذا الموقف، عقد أوباما مؤتمراً صحافياً في حديقة البيت الأبيض الساعة 6:44 مساء، قال فيه ما خلاصته: إن حكم مبارك يجب أن ينتهي بعد فترة تزيد عن الثلاثين سنة. وهكذا اعتبر أوباما نفسه مسعفاً على تحقيق كل ما طلبته الشعوب العربية من حكامها، الأمر الذي انتهى به الى المشاركة في إنهاء حكم معمر القذافي في ليبيا. كذلك، أيد في مصر وصول «الإخوان المسلمين» الى الحكم بقيادة محمد مرسي لاقتناعه بأن مصر ستتحول، مثل تركيا، الى دولة تمثل التماسك الإقليمي بفعل تلاقي الرؤيتين، المصرية والتركية.

يقول نائبه جو بايدن أن قرار أوباما الامتناع عن إرسال قوات الى سورية والعراق لم يكن مفاجئاً لأعضاء الإدارة. ذلك أن هذا القرار يعبر عن رؤيته السياسية، وعن الإرث التاريخي الذي يريد تركه لخلفه.

وحول موضوع محاربة «داعش» ومنظمات الإرهاب، قال بايدن: عندما قرر أوباما تجديد ولايته، تعهد للناخبين بضرورة إرجاع الجنود من العراق وأفغانستان. أما سياسته ضد الإرهاب، فهي ترتكز على بلورة تحالفات واسعة تضم دولاً أوروبية وعربية تعمل في إطار القانون الدولي، وأوفى بتعهده وأرجع الجنود الى البلاد، ولم يبقَ في العراق وأفغانستان سوى قوات التدريب والاستشارة.

قبل أن يتوارى باراك أوباما عن المشهد السياسي العالمي، ويختتم عهده بالتحفظ على بناء المستوطنات الإسرائيلية، فإن مواقفه السياسية عموماً لا تسجله في خانة الرؤساء المحايدين، لكي لا نقول المنصفين. وكل ما علق في الذاكرة الجماعية العربية عن الرئيس الـ44 هو أنه خطيب مفوّه، وأن سحر كلماته كثيراً ما يغطي أخطار أعماله.

أثناء زيارته ماليزيا، سئل أوباما عن «داعش»، فقال أن هذا التنظيم لا يمثل خطراً وجودياً على الولايات المتحدة، وإنما يستطيع بث الرعب في أوروبا والدول الأخرى.

ولما قتل «داعشي» 14 مدنياً أميركياً في كاليفورنيا، استيقظ الرئيس الأميركي على خطورة الدور الإرهابي الذي يمثله «داعش»، كما استيقظ معه الرئيس الجديد دونالد ترامب الذي سيرثه في البيت الأبيض الأسبوع المقبل!