سليم نصار

صدرت في الولايات المتحدة سنة 1959 رواية خيالية سجلت بيع ملايين النسخ بسبب ارتباط أحداثها بالحرب الباردة، وبالمحاولات التي مارسها الاتحاد السوفياتي لإدخال نفوذه الى البيت الأبيض. وذكر كاتب الرواية ريتشارد كوندون أن البطل تعرض لعملية غسل دماغ يوم اعتقله الشيوعيون في الحرب الكورية، ونقلوه الى منشوريا. وبعد الإفراج عنه، ورجوعه الى أميركا، تحول من شخص يميني الى شخص يساري متطرف يروّج لنظام ثوري يدعو الى تحطيم الرأسمالية.

وفي الرواية المتخيَّلة يترشح والد هذا الجندي لمنصب نائب رئيس الجمهورية. وهنا يتآمر الشاب مع والدته لاغتيال الرئيس الأميركي على أمل أن يصبح نائبه - أي الوالد - هو الرئيس.

هذه الرواية تحولت الى فيلم تحت عنوان: «المرشح المنشوري». والطريف أن هذا التعبير أصبح مرادفاً لفعل الخيانة في أوساط الرأي العام الأميركي بسبب تأثير الفيلم على المشاهدين.

بعد غزو العراق من جانب القوات الأميركية، أعيد بناء القصة من جديد عام 2004، حيث تصبح جماعة صدام حسين هي الفئة الإرهابية التي تخطف جندياً أميركياً، وترسله الى واشنطن للقيام بعملية اغتيال شبيهة بعملية اغتيال الرئيس جون كينيدي، الذي خلفه نائبه ليندون جونسون. وحدث في أحد الأفلام الوثائقية أن أشار المخرج الى احتمال ضلوع جونسون في عملية الاغتيال بواسطة لي هارفي أوسوالد. ولكن، ليس لمصلحة دولة غريبة، وإنما لمصلحته الشخصية.

صحف أميركية وأوروبية عدة، إضافة الى تعليقات كبار المحللين، أطلقت لقب «المرشح المنشوري» على الرئيس المنتخَب دونالد ترامب الذي تسلم سلطاته في البيت الأبيض أمس. والسبب أنه كُشِف الأسبوع الماضي عن تقرير أعده عميل سابق في أجهزة الاستخبارات الخارجية البريطانية (ام. آي - 6) يفيد عن وجود روابط وثيقة بين حملة ترامب الانتخابية وأجهزة الحكومة الروسية.

وجاء في التقرير، المؤلف من 35 صفحة، أن مكتب استخبارات الرئيس فلاديمير بوتين حصل على أشرطة فيديو فاضحة لترامب مع غانيات جميلات خلال زيارته موسكو عام 2013. وقد ظهر ترامب في الأشرطة مع ملكة جمال العالم خلال المهرجان الذي أقيم في عاصمة روسيا للمناسبة.

الرئيس الجديد ترامب أنكر مراراً أن موسكو ساهمت في فوزه في الانتخابات، وشبّه عمل الاستخبارات البريطانية والأميركية بأساليب ألمانيا النازية، متهماً الوكالات بالوقوف وراء تسريب التقارير لوسائل الإعلام من أجل تقويض موقعه الرسمي.

المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، قال إن تلفيق مثل هذه الأكاذيب يُعتبر محاولة واضحة للإساءة الى العلاقات الثنائية قبل تنصيب ترامب المؤيد للتقارب مع موسكو.

وكان ترامب كتب على «تويتر» عبارة ذات معنى سياسي بعيد، قال فيها: «وحدهم الأغبياء يمكن أن يظنوا أن وجود علاقات جيدة مع روسيا هو أمر سيء».

ولما كبرت حملة الاعتراض أكثر من المتوقع، طلب بوتين من وزير خارجيته سيرغي لافروف أن يتدخل لمنع التصعيد الإعلامي. لذلك عقد مؤتمراً صحافياً وصف فيه الجاسوس البريطاني السابق - أي كاتب التقرير - بأنه «رجل دجال». وأكد لافروف في الوقت ذاته أن بلاده تتوقع فتح حوار شامل مع الإدارة الأميركية الجديدة، يتضمن موضوع الأسلحة النووية والدرع الصاروخية في أوروبا.

ويبدو أن المقابلة التي أجرتها شبكة «إن بي سي» مع عضو الكونغرس جون لويس، رفيق درب مارتن لوثر كينغ، أثرت في موقف الجالية السوداء، خصوصاً بعدما اتهم ترامب بأنه رئيس غير شرعي. وأعلن أيضاً أنه سيتغيّب عن حفلة تنصيب الرئيس للمرة الأولى منذ أصبح عضواً في الكونغرس عام 1987.

الأسبوع الماضي نشرت صحيفة «التايمز» اللندنية رسماً كاريكاتورياً يمثل الرئيس بوتين في شكل «دكتور - نو» المفترض أن يكون حاكم الكرة الأرضية في فيلم من بطولة جيمس بوند (شون كونري). ويظهر بوتين وهو يداعب هراً له رأس دونالد ترامب، وقد جلس في حضنه مسروراً. والمعنى المستتر الذي أوحى به الرسم الكاريكاتوري في صحيفة «التايمز» يدل إلى أن بوتين هو الذي يرعى ترامب.

وتقود هذه الصورة الرمزية الى السؤال المحيّر: هل صحيح أن أجهزة الاستخبارات الروسية هي التي أقنعت دونالد ترامب بضرورة ملء الفراغ في قيادة الحزب الجمهوري... وأنها هي التي شجعته على كسب النفوذ السياسي لحماية ثروته الضخمة. أي الثروة التي جمعها في مجال العقارات ونوادي الغولف. ووفق مجلة «فوربز» فهي تقدَّر بـ 3.7 بليون دولار، في حين يزعم هو أنها تتعدى العشرة بلايين دولار.

ويصل عدد من المحللين الأوروبيين الى هذا الاستنتاج بناء على الوقائع والمعطيات التالية:

أولاً - إن حياته الاجتماعية الصاخبة، وانشغاله في الإعداد لمسابقة ملكة جمال الكون، أبعداه عن اتقان فنون السياسة التي يحتاجها كل مرشح لمنصب رسمي. وبسبب جهله لهذا القطاع، نعته زعماء الحزبَيْن الجمهوري والديموقراطي بـ «المرشح الدجال» في مطلع حملته الانتخابية.

ثانياً - كشفت عملية اختيار أعضاء ادارته عن بعض التحركات المريبة. والدليل أنه قابل ثلاثة أشخاص أثناء بحثه عن وزير خارجية، كان بينهم رئيس بلدية نيويورك السابق رودي جولياني. وفي نهاية الأمر، اختار ريكس تيليرسون، رئيس مجلس الإدارة والمدير التنفيذي لشركة «اكسون موبيل». وأهم منجزاته أنه حقق نجاحاً باهراً مع شركة «روسنفت» الروسية، الأمر الذي دفع الرئيس بوتين الى مكافأته ومنحه «وسام الصداقة». لذلك رحب الكرملين بتعيينه، علماً أن صاحب قرار التعيين لا يعرفه، ولكنه اعتمد على رأي موسكو فيه.

ثالثاً - منذ تقدم قوات الحلف الأطلسي على جبهة أوكرانيا، والرئيس بوتين يطالب بحل هذا الحلف الدفاعي الذي أنشئ بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. وبدلاً من أن يدعو الى تجديد أسلحته وتقوية عناصره، طالب ترامب بضرورة حله. واستغل انعقاد قمة الأمن النووي في واشنطن بمشاركة 56 دولة كي يقول إن الحلف إنشئ لزمن لم يعد موجوداً، لأن روسيا لم تعد تمثل التهديد الذي كان يمثله الاتحاد السوفياتي!

وعلق على هذا التصريح في حينه منافسه في الحزب الجمهوري تيد كروز، فقال: هذه أفضل هدية تقدَّم لبوتين. لأن مثل هذا الكلام يبرر تخلي أميركا عن أوروبا، كما يبرر تفكيك أهم تحالف عسكري في الغرب.

رابعاً - امتدح ترامب بعد إعلان فوزه بالرئاسة نشاط جوليان أسانج، مؤسس موقع «ويكيليكس»، لأنه كشف أسرار النظام الفاسد. وكان أسانج نشر مواد اميركية سرية عدة عن وزارة الخارجية في عهد هيلاري كلينتون. واستفاد ترامب كثيراً من تلك الوقائع لدعم حملته ضد منافسته كلينتون. ثم تبين بعد فترة أن الاستخبارات الروسية كانت تزود «ويكيليكس» بالمعلومات، لأنها ترغب في إسقاط مرشحة الحزب الديموقراطي.

كل هذه المعلومات المثيرة للشكوك جاءت لتعطي الرئيس السابق باراك أوباما المبرر لطرد 35 ديبلوماسياً من سفارة روسيا في واشنطن، بحجة مخالفة القوانين. والسبب، كما سرّبت مصادر الـ «إف بي آي»، أن الديبلوماسيين المطرودين كانوا يتولون عمليات الاتصال مع جماعة ترامب، وكانوا ينسقون أعمالهم سوية، ويضعونها في خدمة «رئيس روسيا» في البيت الأبيض!

بقي السؤال الذي طرحه عضو الكونغرس الاميركي جون لويس، وما إذا كانت شرعية دونالد ترامب ستتعرض للإهتزاز والضمور في ظل التظاهرات التي تنتظره في واشنطن وولاية كاليفورنيا.

وهي تظاهرات يشرف على تنظيمها زعماء الحزب الجمهوري الذين يعتبرون أن فوز ترامب حصل نتيجة إهمال السياسيين والاقتصاديين معاً. ذلك أن السياسيين لم يتوقعوا أن تتحول رغبة الجماهير في تغيير واقعها الى فشل مدوٍ لم يعرفه أي رئيس من قبله. كما أن الاقتصاديين لم يتوقعوا أن يصبح رمز النجاح الرأسمالي اليميني حليفاً لرئيس وصل الى الكرملين بفضل دعم الاستخبارات وأجهزتها الواسعة.

وقبل أن يحصل التراجع الكبير، لا بد من منحه فترة لا تتعدى المئة يوم!