حسن حنفي

بعد الحرب العالمية الأولى، تم القضاء على الدولة العثمانية وتقطعت أطرافها. وسقطت الخلافة بعد الثورة الكمالية في 1923. ووجد العرب في القومية العربية بديلا يحميهم من أطماع الاستعمار والتي لم تتوقف، فبرزت الدول العربية التي أنشئت بفعل اتفاقية سايكس- بيكو. ثم انهارت القومية العربية بعد هزيمة يونيو 1967 وانتهى المشروع العربي التحرري القومي إلى احتلال أراض من مصر وسوريا وكل فلسطين. وبعد أن عادت إليها الروح في حرب أكتوبر 1973 انهارت مجدداً بعد غزو العراق للكويت ثم حرب الخليج الثانية عام 1991.

والآن يُغزى العالم العربي من جديد كما حدث في العراق وسوريا، وتتفكك أوطانه كما يحدث في السودان واليمن وليبيا والصومال، وتتحول إلى فسيفساء «طائفي وعرقي ومذهبي؛ سني وشيعي وكردي وتركماني في العراق، وسني وماروني ودرزي في لبنان، ومسلم وقبطي في مصر، وعربي أمازيغي في المغرب العربي، وعربي وأفريقي في السودان، وزيدي وشافعي في اليمن».. وبالتالي تأخذ إسرائيل شرعية جديدة من طبيعة الجغرافيا السياسية في المنطقة لإقامة دولة قومية يهودية في فلسطين، وطرد أكثر من مليون فلسطيني من عرب 1948. وتمنع أكثر من مليونين آخرين من اللاجئين من نكبة 1948 ونكسة 1967. وتنتهي أية قوة وحدوية في المنطقة، إسلامية أم عربية أم قطرية في الدول التاريخية في المنطقة. ويقضى على إمكانية تكوين قطب إسلامي أو عربي في مواجهة القطب الأوحد ولإقامة عالم متعدد الأقطاب. فالعولمة ذات اتجاهين؛ توحيد المركز (مجموعة الثماني الكبار والشركات متعددة الجنسيات والغرب الصناعي)، وتفتيت الأطراف (في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية) كي تبقى سوقاً للاستهلاك ومصادر للمواد الأولية أو العمالة الرخيصة.

ليست وحدة الأمة بالضرورة وحدة سياسية مركزية، كما كان الحال سابقاً في الدول الأموية والعباسية وحتى العثمانية. فقد كانت الخلافة اسمية، والأمصار مستقلة عنها تقريباً.. بل هي وحدة الأخوة والتعاطف المشترك، أي الوحدة الوجدانية أو وحدة نسق القيم والمبادئ والتصور المشترك للعالم. وهي وحدة التضامن الاجتماعي والشعور بالأمة، وحدة المبادئ والغايات، المقاصد والأهداف.. لتحقيق الإسلام كنظام مثالي للعالم. وبلغة المحدثين هي وحدة الثقافة والحضارة ونسق القيم.. وحدة الجوار الجغرافي والتاريخ المشترك.. قبل أن تصبح وحدة المصالح في الحرية والاستقلال والتنمية والتعاون ضد الاستعمار والصهيونية وكل أشكال الهيمنة.

لا تعني وحدة الأمة بالضرورة وحدة سياسية، كما كان الحال عند القدماء في نظام الخلافة، بل تعني اللامركزية التي طالما دافع عنها المصلحون. وقد تعني الفيدرالية، أي سلطة مركزية في الدفاع والخارجية، وسلطات محلية في التنمية والحكم المحلي. وقد تكون تعاوناً إقليمياً بين دول الجوار، مثل مجلس التعاون الخليجي واللجان المشتركة العليا بين كل دولتين ثنائياً.

لا تعود وحدة الأمة إلا تدريجياً، ابتداءً من وحدة الأقطار والحوار الداخلي بين تياراتها المختلفة في جبهة وطنية أو ائتلاف وطني، مع اتفاق على الحد الأدنى من البرامج الوطنية. ثم تبدأ وحدة دول الجوار. ثم وحدة مجالس التعاون مثل مجلس التعاون كنوع من الفيدرالية، وبعدها مجالس التنسيق والتعاون الثنائي.. تعقبها الوحدة الإسلامية أخيراً في صورة عالم إسلامي متفق في الأهداف، يكوّن كتلة تاريخية كبيرة.

ليست الوحدة شعارات أو تمنيات، بل هي عملية تتحقق في الواقع ويشعر الناس بآثارها وثمارها، وهي تتحقق بفتح الحدود، ورفع الحواجز الجمركية، وحرية التجارة. لقد كانت السوق العربية المشتركة في أوائل الخمسينيات أسبق من السوق الأوروبية المشتركة. وقد تستطيع معاهدة الدفاع العربي المشترك أن تمنع من غزو الأقطار، واحداً تلو الآخر كما حدث للعراق وفلسطين. قرارات كثيرة وتحققات قليلة لا تلبي مستوى الأمنيات المرجوة، ولكن دائماً يبقى الأمل، «وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً».